03-يناير-2023
كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

شاهدتُ مؤخرًا فيلمًا وثائقيًا عرضه التلفزيون العربي بعنوان "لقاء مع الرقيب"، يأتي كمحاولة من قبل صانع أفلام يُدعى هافارد من أجل فهم دور وماهية الرقيب والرقابة، وفيه يُسافر هافارد إلى عدة دول هي السودان والهند والصين وإيران والولايات المتحدة الأمريكية والسويد، ويُحاول الاستماع إلى وجهة نظر الرقباء في تلك الدول عن دور الرقابة وأهميتها وحدودها في مجالات الأمن والفنّ وغيرها.

يوضّح الفيلم في مشاهده الأولى بأنّ الغرض من إنتاجه هو محاولة فهم الرقابة أنثروبولوجيًا، عبر الاستماع إلى وجهة نظر الرقباء -في مختلف الدول- من أجل إيجاد مبررات موضوعية لها، لكنّه مع ذلك يعجز في النهاية عن تكريس مفهوم الرقابة الإيجابية في أذهان المتلقين، حيثُ يظهر الرقباء في حديثهم عن الرقابة ودورها باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من المنظومات الحكومية قي البلدان التي يعملون فيها، ويأتي كلامهم حول الرقابة مفرّغًا من أي ضرورة موضوعية ملّحة تستلزم فرضها في مختلف المجالات.

عندنا ينجح المبدعون في تمرير ما يريدون رغمَ حصار الرقباء، ستمثل اللحظة التي يتمكنون فيها من الإفلات من مقصّات وعصي الرقيب لحظة ملحمية كبرى

دفعتني مشاهدتي للفيلم إلى التفكير في ظاهرة الرقابة باعتبارها ظاهرة قرينة وملازمة للفكر والإبداع، فحيثما وجدَ الفكر والإبداع وجدت الرقابة ووجدَ الرقيب، وعلى مدار التاريخ في الشرق والغرب طالما وجَد المفكرون والمبدعون طرقهم الخاصة في التحايل على الرقيب والإفلات من قبضته، فالمبدعون الكتاب طالما استخدموا الألاعيب اللغوية والتشبيهات والاستعارات ليمرروا ما يريدون قوله من خلال جمل وعبارات مموهة، ظاهرها يقول شيء وباطنها يقول شيء آخر.

والمبدعون الفنانون المشتغلون في المسارح مثلًا طالما عملوا على بناء مسرحياتهم الناقدة للواقع السياسي أو الديني المحيط بهم عبر استخدام أسلوب الترميز، وعن طريق كتابة نصوص مسرحية مرمّزة فيها العديد من الإسقاطات على الواقع الحاضر والمعاش.

والمبدعون أو المفكرون على اختلاف صفاتهم يَشعرون بنشوة عارمة عندما ينجحون في تمرير ما يريدون رغمَ حصار الرقباء، ولعلّ اللحظة التي يتمكنون منها من الإفلات من مقصّ الرقيب تُمثّل لحظة ملحمية كبرى، لأنّها تحضر بصفتها لحظة تحرّر، يتحررون فيها من قيود الرقيب التي تحاصرهم، ويوصلون فيها رسالتهم ولو عبر الترميز والتورية دون أن تطالها يد الرقيب الآثمة.

أخذني تفكيري في الرقابة والرقيب إلى حالي ككاتبة، فاستحضرتُ خوفي الدائم من الرقيب الداخلي الكامن فيّ، الذي أخافُه أكثر من أيّ رقيب خارجي آخر، لأنني أرى فيه بقايا ترسبات كلّ سلطات الرقابة الخارجية (الدينية والسياسية والمجتمعية) التي طالما أعلنت تمرّدي عليها وسعيي لاختراق رقابتها.

أخافُ رقيبي الداخلي المخبّأ عني في طبقات ذهني اللاواعية، أخافُ عينيه التي تخرج مني لتتلصّص عليّ، ولتوجّهني في طرقات الكتابة فتقول لي ما يصّح وما لا يصحّ وما يجب وما لا يجبّ، ولتضع لي حدود وسقوف وهمية يجب ألا أتعداها، أخافه لأنني أدركُ صعوبة خداعه والتحايل عليه.

وبعيدًا عن رقيبي الداخلي وخوفي منه، أخذني تفكيري في الرقابة والرقيب إلى قصتين في الغرب والشرق لمبدعين وفلاسفة نجحوا في خداع الرقيب والتحايل عليه؛ القصة الأولى هي قصة الفيلسوف البلغاري تزفيتان تودوروف الذي قرّر الدخول إلى جامعة صوفيا عام 1956 ليمتهن الأدب والكتابة عنه والتنظير فيه، فما يرويه تودوروف في كتابه "الأدب في خطر" أنّ بلغاريا كانت آنذاك جزءًا من الكتلة الشيوعية، وكانت دراسة الآداب فيها محكومة وموجّهة من قبل الأيديولوجيا الرسمية. يحكي تودوروف محاولته الإفلات من قبضة العقيدة الماركسية اللينينية المهيمنة آنذاك، والتي كانت تطلب منه النطق بلسانها حتى عند تنظيره وكتابته في الأدب وقضاياه.

ويُورد بأنّه عندما كان في مرحلة الدراسات العليا في نهاية السنة الخامسة، طُلِب منه كتابة بحث شهادة التخرج، حيثُ وضع في امتحان صعب، وكان عليه إيجاد طريقة يتمكّن فيها من إنجاز بحث يتحدّث فيه عن الأدب دون الخضوع للأيديولوجيا المهيمنة، ويقول عن الطريقة التي سلكها لتحقيق ذلك: "سلكتُ إحدى الطرق النادرة التي تتيح الهروب من التعبئة الشاملة. تلك الطريق هي الاهتمام بموضوعات دون حمولة إيديولوجية، وإذن في الأعمال الأدبية، في ما يتصّل بمادية النصّ نفسها، بأشكال اللسانية (...) في الجامعة، كان أستاذنا الأكثر إثارة للاهتمام هو، كالمتوقع، متخصصا في علم العروض. اخترتُ إذًا كتابة بحثي بمقارنة نسختين من قصة طويلة لمؤلف بلغاري، كُتِبت في بداية القرن العشرين، وحصرتُ نفسي في التحليل النحوي للتحويرات التي أجراها من نسخة أخرى: الأفعال المتعدية تحل محل الأفعال للازمة، التام يصير أكثر ورودًا من غير التام... وهكذا كانت ملاحظاتي تُفلت من كل رقابة! وبهذا الصنيع لن أخاطر بانتهاك المحركات الإيديولوجية للحزب".

توثّق قصص الإفلات من قبضة الرقابة مسار تحرّر وانعتاق ونشوة صرفة، ولعلها تمثل استعادة النفس الإنسانية متعة الشعور بالطيران

 

القصة الثانية هي قصة الكاتبة والناشطة النسوية وجدان ناصيف، وذلك في مقالتها المنشورة في مجلة "رواق ميسلون" تحت عنوان: "دفتر أخرس"، وتروي فيها حيثيات مشاركتها مع رفيقاتها من السجينات السياسيات في سجن دوما للنساء في إضراب مفتوح عن الطعام، وكان ذلك في عهد حافظ الأسد تحديدًا في أيار/مايو عام 1988، تروي الأخرس أنّ أحد المطالب الرئيسية التي نادت بها السجينات المضربات عن الطعام هي الحصول على دفاتر وأقلام، وأنّ الظفر بهذا المطلب بعد نجاح الإضراب كان بمثابة انتصار عظيم، لولا أنه جاء ناقصًا، لأنّ الدفاتر التي منحت للسجينات كانت مدموغة بختم المؤسسة العسكرية وتتصدر غلافها الخارجي صورة دائرية لحافظ الأسد، وتظهر هذه الصورة كما لو كانت تُذكّرهنّ بحضور سيادته كرقيب دائم عليهنّ وعلى أفكارهنّ.

وتورد ناصيف عن طريقة تحايلهنّ على هذا الرقيب الذي يأتي في شكل صورة: "لم تستطع الصورة أن تسرق فرحتنا بالدفتر، غلَّفنا الدفاتر بورق الجريدة التي كانت تصلنا في السنة الأولى عبر الشرطيات أو السجينات القضائيات، وهكذا تحايلنا على وقاحة الرقيب. على هذا الدفتر سندوِّن خططًا لفعاليات ثقافية سنقيمها فيما بعد: كلمات لأوبريت غنائي ساخر، مسودّة لمسرحيات سنعرض معظمها سرًا في مهجعنا وسيحالفنا الحظ في عرض بعضها أمام جمهورنا من القضائيات. من صفحات دفاترنا هذه سنقتطع أوراقًا لنعيد جمعها بالخيط والإبرة، ولتصبح بعدها مجلة نصف شهرية سنطلق عليها اسم "الجرح المكابر"، وسنتداولها سرًا فيما بيننا".

وهناك المئات من القصص الأخرى التي يضجّ بها تاريخ الشرق والغرب حول التحايل على الرقيب والإفلات من قبضته، وهي جميعها قصص تجيء لتوثّق لحظة التحايل على الرقيب باعتبارها لحظة تحرّر وإفلات وانعتاق من قبضته، أو لنقل باعتبارها لحظة تحضيرية تستعيد فيها النفس الإنسانية متعة الشعور بالطيران والتحليق فوق عيون الرقيب ومقصاته.