15-أبريل-2022
غرافيتي لـ رامبو في سان لوران، وسط فرنسا

غرافيتي لـ رامبو في سان لوران، وسط فرنسا

رامبو والمركب السّكران

في السبعينيات من القرن الماضي، هبّت علينا موجة قراءة الشّاعر الفرنسي آرثر رامبو. ذلك الشّاعر الذي أقف الآن أمام تمثاله في المدينة التي ولد فيها شارفيل. ويمكن للقارئ أن يتخيّل تلك المتعة المثيرة التي كانت تضيفها على حماس ذائقتنا الشعرية من خلال قوّة الجملة وجمالها وإباحيّتها أحيانًا، ومغامراته حين كان يبيع البنادق لملوك الحبشة والقبائل الأفريقية في مالي وتنزانيا وجنوب السودان، وذلك بعد أن يجلبها من ميناء مصوع وعدن، ويذهب بها بقوافل راجلة إلى مجاهل أفريقيا.

كان رامبو يبيع البنادق لملوك الحبشة والقبائل الأفريقية في مالي وتنزانيا وجنوب السودان، وذلك بعد أن يجلبها من ميناء مصوع وعدن، ويذهب بها بقوافل راجلة إلى مجاهل أفريقيا

أتت أشعار رامبو إلينا من خلال ثلاثة كتب، وشعرنا بشيء من الخجل ونحن نضعها في مكتبتنا الصغيرة في مدرسة تقع في عمق الأهوار. كان الأول بترجمة الشّاعر خليل خوري، والثّاني في فصل لكتاب قلعة إكسل لإدموند ويلسون بترجمة جبرا ابراهيم جبرا، والثالث في كتيّب لمؤلف لبنانيّ اسمه سمير الحاج شاهين.

ومنذ قصيدته الرائعة "المركب السكران"، والتّي سرقتُ مقدّمتها لواحدة من رواياتي. تلك الجملة التي ابتدأت بها القصيدة والّتي تقول: "ذات مساء وجدت الجمال مرًا فجدّفت إليه".

سكنني هاجس الشّاعر وروحه وقوّته، وكان بعضنا يعتبره مفتاحًا لسارتر لاكتشاف فلسفته الوجوديّة، فيما كان هناك معلّمًا طلّق زوجته من فترة قال لنا إنّ رامبو ومغامراته مع فرلين تصلح لتكون عرسًا ثانيًا.

كنّا نضحك ونحاول أن نتخيّل هذا المركب المترنّح هو ذاته الزورق الذي يأتي بنا ثملًا من نادي الموظّفين في مدينة الجبايش كلّ ليلة جمعة. وكنّا نمزح ونغنّي في طريق العودة: عند رامبو مركب سكران، وعند معلّمي مدرسة البواسل زورق سكران، وخذ الفرق بينهما واعرضه أمام برج إيفل، زورقنا لا يشتريه أحد، ومركب رامبو تشتريه كلّ الدنيا.

ظلّت قصائد رامبو تصنع النّشوة، وقرأها شغاتي أيضًا، فلم تُثر فيه الحماس الذي كانت تمنحهُ إياه قصائد السيّاب ومحمود درويش، وكان يُعلّل ذلك بأنّ عللهم أقرب إليه من علّة هذا الحُلو الفرنسي.

أتذكّر الآن جملته الجميلة "الحلو الفرنسي" وأنا أقف أمام تمثاله وأتمنّى لو أنّ شغاتي عامل الخدمة في مدرستنا الآن على قيد الحياة لأرسلت اليه دعوة "شِنكل" ويجيء إلى هنا ويعرض "زورقه" أمام برج إيفل، فيما أهل شارفيل سيعرضون مركب شاعرهم، وربّما بعد الّذي حدث للأهوار من الويلات وتجفيف وتسليط الضّوء من أنّها كانت المرسى الأول الّذي مشت منه سفينة نوح، حتمًا سيرمون مركب رامبو بعيدًا، ويشترون زورق شغاتي.

أضحك في سرّي، ويخبرني صديق وهو يقرأ هذا السّيناريو تحت أجفاني ويقول: لن يشتروا لا هذا ولا ذاك.

قلت: من يشترون؟

قال: سفينة تايتانيك...

انتبهت إلى كلمة صديقة، واستعرضت الفيلم الذي شاهدت قبل أيّام في إحدى سينمات باريس، وصحتُ متعجّبًا في وجه صديقي: هل ترى معي، أنّ ملامح بطل الفيلم ليوناردو دي كابريو تشبه تمامًا ملامح رامبو؟ ابتسم وقال: نعم، ولكنّها لا تُشبه ملامحَ شغاتي.

بيت آرثر رامبو في عدن

أسهم الشاعر شوقي عبد الأمير في إرشاد المهندس الفرنسي جوزيه من أجل ترميم بيت الشّاعر الفرنسي آرثر رامبو، والّذي سكن فيه في عدن عاصمة الجزء الجنوبيّ من اليمن.

هذه اللّوحة مرسومة من قبل السيّد جوزيه وحتمًا ثمة ملامح من شروحات شوقي عبد الأمير الّذي يعرف الكثير من تفاصيل الحياة السرية لرامبو ومتتبّع حاذق لمنجزه الشّعري. ومطّلع على خرائط محطاته الأفريقية من عدن إلى ميناء مصوع ثم الولوج إلى داخل أفريقيا حيث امتهن بيع البنادق وربّما الخشخاش.

ثنائية شوقي عبد الأمير (الشاعر والسومري) وهو يحاول منذ أن لجأ إلى عدن كمأوى لواحدة من محطات منافي حياته. كان يدرك جيدًا أنّ عدن هي امتداد للخيال المائي المسكون في الرؤى السّومرية (عدن، دلمون، عاد، أركاديا) وحتمًا هو مشبع بإرث من الذّكريات والنّصوص الّتي كتبها باتجاه أفق الزقورات وربما حتى قبل أن يظهر لنا كتابه الشعري الأخير نادو.

بدون أوبئة، مشى رامبو في ظلمة الغابات وتحمّل لسع حشرات استوائية. باع بنادقه وتعلّم كيف يُشعل التّبغ والخشخاش بدون كبريت. ضرب حجرًا بحجر فاشتعل الحطب وخديه

يمكن القول إن روح المكان (أور ــ سوق الشيوخ) هي التي مكّنت شوقي عبد الأمير من فكِّ طلاسم المكان البيت الذي عاش فيه آرثر رامبو، وأنّه كان بإرشاداته وملاحظاته للمهندس الفرنسي إنّما يفكّ له شيفرات الرؤى التاريخيّة واختلاف وجهات نظرها حول حياة رامبو في عدن.

النظر إلى اللوحة هو النظر الى الأحاسيس السحرية التي كان رامبو يكتبها بقصائده حتى الجريئة، تلك التي حملت التابوهات الكنائسية وتعاملت معه على أنّه ملحد.

تلك اللوحة، وما يستشعره الشاعر السومري ويهبه إلى المهندس الفرنسي هي ما يجعلنا ننظر إلى تلك اللّوحة بسعادة وإطالة لمحاولة الفهم العميق.

رامبو من دون أوبئة

بدون أوبئة عاش رامبو في عدن ومصوع والحبشة، وكان يشكو من قذارة الموانئ. ولكنّ النبيذ أنقذه، وكتاب فيه قصائد لشاب من أهل حضرموت كتبها بلهجة زنجبارية ترجمها له كاهن أبرشية أديس أبابا.

بدون أوبئة، مشى في ظلمة الغابات وتحمّل لسع حشرات استوائية. باع بنادقه وتعلّم كيف يُشعل التّبغ والخشخاش بدون كبريت. ضرب حجرًا بحجر فاشتعل الحطب وخديه. أصدقاؤه أفارقة وتجّار من عُمان وآخر أتى من البصرة يبيع تمر التنومة وأبي الخصيب. صادقهم كلهم وبدون أوبئة كان يشاركهم السهر كلّ الليل.

روح رامبو مبتلية بالوباء. وفي مدينة شارفيل عمّال وعاملات البلدية تعفر قبره. وليسمع عمّال الصحّة قصائده تلك التي تتحدّث عن عدن الجميلة، عدن قبل حروب الحوثيّين.