17-أبريل-2018

جيجون ميلي/ أمريكا

هناك جدال طويل ومتنوع حول مفهوم السعادة، وثمة اختلافات نظرية واسعة في معالجة تاريخها، لكن الذي يبدو واضحا أكثر من أي شيء آخر، أنها لم تكن قط موضوعًًا حيويًا، متعلقًا بحياة الناس اليومية وبطموحاتهم وتعريفهم لأنفسهم، كما هي الآن في العالم المعاصر. ما الذي تغير إذن؟ يمكن القول إن الإجابة على هذا التساؤل صارت مبحثًا كاملًا تتعدد فيه الآراء وتتنوع.

مشكلة السعادة الأهم، في أنها تعرفت باعتبارها تحقيقًا كليًا لمجموعة من الرغبات الإنسانية المتناقضة

بالنسبة لنيكولاس ويت، وهو فيلسوف أمريكي، وصاحب كتاب من الأكثر شهرة في هذا الشأن، بعنوان تاريخ موجز للسعادة "A Brief History of Happiness"، فإن ثمة مشكلة بنيوية في مفهوم السعادة، يحولها إلى نوع من الأوتوبيا المتطرفة.

يرى نيكولاس ويت الذي استقصى معنى السعادة في الفكر الإنساني، بدءًا من فلاسفة الإغريق إلى منظري الحداثة، أن التعريف الشامل للسعادة، لا بد وأن يتضمن بالضرورة مجموعة من المتناقضات. حيث إن مشكلة السعادة الأهم، في أنها تعرفت باعتبارها تحقيقًا كليًا لمجموعة من الرغبات الإنسانية المتناقضة، وهي بالتالي توق إلى نمط حياة غير موجود أو مستحيل، لكن تخيل هذا النمط والتطلع إليه فاعلان في الواقع الاجتماعي، وربما يتحكمان بجل مساراته.

ليس هذا التوق، مثل كل التطلعات الرومانسية في التاريخ الإنساني، مشكلة بحد ذاته، لكن تحوله إلى نوع من الأوتوبيا الجماعية في المجتمعات الحديثة، بدا أكثر خطورة من أي وقت آخر في التاريخ. حيث يتدخل هذا التوق في مجمل خططنا في الحياة وخياراتنا، في العمل والحب والزواج والدراسة، أثناء سعينا جاهدين إلى تحقيق "الحلم الأكبر".

ثمة وجهة نظر فريدة للفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون، بخصوص فقدان المعنى في الحياة المعاصرة، يمكن أن تساعد في توضيح هذا الأمر، يقول فيها إن هذا الفقدان لا يتعلق بسقوط معان معينة أو مشاريع كان يحملها البشر في عصور سابقة بالطبع، ولكن ما حدث فعليًا هو العكس، حيث إن شعور الإنسان في المجتمعات الحديثة بفقدان المعنى، ناتج عن تبلور الحاجة إلى معنى أصلا، والتركيز الاجتماعي والنفسي عليه.

لا ينقصنا من وجهة النظر هذه أي شيء مقارنة بالبشر سابقًا، لا أفكار كبرى ولا معان، ولكننا نملك فعليًا شيئًا زائدًا عنهم، هو الشعور بالنقص، وبالحاجة إلى معان ومشاريع.

هنا تأتي فكرة الخلاص، ميزة الحداثة الأخطر، كرافعة لهذه الحاجات المعاصرة، وتتبلور مستعيرة التخيلات الدينية في تصورات يوتوبية حول حياة أخرى، لكن هذه المرة قبل الموت وليس بعده. بالنسبة لـ دو بوتون مجددًا، كما يبين في كتابه/ روايته "Essays in Love"، فإن التوق إلى الخلاص أو المصير لم يكن موجودWا بهذه الصورة من قبل كما هو الآن في مجتمعاتنا.

أصوات من تحت الركام

ليست السعادة نظرية بطبيعة الحال، وهي تختلف عن كل القراءات الحداثية التي بحثت عن حياة أفضل، بأنها تطورت كظاهرة لغوية أو خطابية، لا كمقولة نظرية، بالإضافة إلى أنها تمثل خلاصًا فرديًا لا جماعيًا للإنسانية كلها مثلاً، على الرغم من أنها تطورت كتصور جماعي. هذا يجعل مفهوم السعادة جزءا من حياتنا كأفراد، وجزءا من تفاعلنا الشخصي مع الحياة، ولأنه شخصي، فإنه حسب كتاب آخر للفيلسوف البريطاني بعنوان "قلق السعي إلى مكانة"، مرتبط باللعبة الاجتماعية للتنافس. لا ترتبط السعادة بوضوح بمصادر معينة ومحدودة يتنافس عليها الناس، مع ذلك، فإنها خاضعة لنفس المنطق، لأسباب غير مفهومة.

ليست مشكلة الأوتوبيا عمومًا أنه مشكوك في إمكانية تحقيقها أو في واقعيتها، ولكن والأهم أنها تمثل تصورًا ورديًا عن الحياة اللاحقة يشوش العلاقة مع الحياة الآنية. هذا ما يعبر عنه الروائي التشيكي ميلان كونديرا في روايته المزحة، ساخرًا من الشيوعية، عندما يقول إن التفاؤل هو أفيون الشعوب.

هذا يحدث في توقنا إلى تحقيق السعادة، التي لا تتشكل من نتائج واضحة، وبالتالي لا يمكن التعامل معها بطريقة ميكانيكية. يمكنك أن تجتهد وتدرس أو تقرأ من أجل الحصول على شهادة دكتوراه في الفلسفة، ويمكنك أن تعمل بجد ولساعات طويلة من أجل الحصول على مال أكثر، لكنه من غير المعروف طبعًا، ماذا عليك أن تفعل لتصبح سعيدًا.

لنفس هذا السبب، فإن التطلع إلى السعادة لا يتجسد في حياتنا اليومية بالإنتاج، أو بخطط على المدى البعيد أو بطرائق عملية، ولكنه أميل لأن يكون مرتبطًا بالاستمتاع المفرط والترفيه وربما الترف.

ارتبطت السعادة في الألفاظ القديمة بالحظ الجيد، ولم تكن مرتبطة بأي تفاعل عاطفي

في نفس الوقت، فإن السعادة ليست شعورًا عاطفيًا تمامًا، وهي ليست حالة موضوعية للحياة أيضًا. يمكن من خلال مقارنة الألفاظ القديمة التي تقترب من اللفظة الإنجليزية "Happiness"، أن نجد أن السعادة تراوحت تاريخيًا بين هاتين الحالتين. غالبًا ما كانت هذه الألفاظ في لغات مختلفة تعني الحظ الجيد. وهي بالتالي لم تكن مرتبطة بالعاطفة. في المجتمعات الحديثة، من الواضح أنه تم دمج الحالتين بطريقة غير منطقية، بحيث تصبح السعادة حالة للعيش، لكنها تظل تفاعلًا عاطفيًا في نفس الوقت.

من الصعب بالتأكيد تقبل هذه الفكرة، حيث يفقد كثير منا في طريق السعادة الدموي معاني حياتهم، وربما حياتهم نفسها. وحيث يشعر كثير منا أنهم خاسرون، بعد أن فشلوا في معركة الوصول إليها، وإذ نتذمر دائمًا من ظروفنا، مهما كانت، لأننا نقارنها دائمًا بظروف مثالية أخرى.

 تتربع السعادة على الطاولة الأخرى دائمًا. ستراها هناك وأنت تعمل أو تدرس، أو تكتب نصًا روائيا أو أكاديميًا، وربما ستشعر بالاقتراب منها أكثر وأنت ترقص رقصًا صاخبًا، أو تشرب الكحول بشراهة أو تتعاطى المخدرات، لكنك لن تجلس هناك أبًدا. وحتى عندما تفهم مأزق السعادة واستحالة الوصول إليها، فإنك للأسف لن تتوقف عن التوق إليها. فالبشر دائمًا، كما هي خلاصة كتاب دو بوتون، "أذكياء أكثر من كونهم قادرين".