16-سبتمبر-2022
لوحة لـ كاتي كولفيتس/ ألمانيا

لوحة لـ كاتي كولفيتس/ ألمانيا

لو لم أكن أُمًّا، ربما حضنتك أيها اليأس، وأنت تفتح ذراعيك لي هكذا.

لو لم أكن أمًّا، ربما أفلتّ أصابع هذا الأمل المشتبكة بالكاد بأصابعي، كأنه الغريق في ذاتي، الذي يبحث عن السطح.

لو لم أكن أمًّا، لملت قليلًا على هذا الجدار/ لَلُذتُ بالأغطية حتى الظهيرة/ لأمضيت عطلة نهاية الأسبوع خلف ظلمة الستائر السميكة، وعطلة أعياد نهاية السنة برفقة أكياس الشيبس والموقد القديم.

لو لم أكن أمًا، لتوقفت عن الركض قليلًا، ثم جلست في الشمس، أصغي لزيز الظهيرة يغني أغنيته اللامبالية.

لو لم أكن أمًا، لقلت لمديري بلا تفكير أنّ هذا العمل يُفرِغ روحي.. ثم كنت رميت استقالتي على مكتبه، وعدت إلى البيت، لأنام نومًا مجوفًا بلا أحلام ولا كوابيس.

لو لم أكن أمًا، لعدلت عن مطاردة الأحلام العادية، ولما ملكتُ ربما بيتًا ولا مكانًا ولا جذورًا.. لكنت زهدتُ -ان أردت- واكتفيتُ بالقصائد والأغاني.. أو كنت اشتهيت كل شيء، ورحت أذرع طرقات كثيرة لا تودي بي إلى أي هدف.

لو لم أكن أمًا، لكنت خلعت هذا الخوف قليلًا.. فرجعت الحياة وهمًا والموت وهمًا أكبر…

لو لم أكن أمًا، لأغمضت عيني كل ليلة، ودخلت الحلم خفيفة. لا غدًا يعنيني، ولا أمس يلمسني.

لكنني أم.

أقف هنا كصخرة. ثابتة. لا يحق لي أن أميل، أو أيأس أو أختبئ.

وأرتجف كورقة، خوفًا من الحياة ومن الموت، ومن الهواء إن مرّ بين قلبي وقلبي.

لكنني أمّ،

فتشبث بأصابعي أيها الأمل.

 

2-

 

البياض في كل مكان.

في زهرة النرجس على الطاولة.

في قلب طفلك يحبو الآن بملابسه البيضاء.

في شعر جدتك المخبأ بحرص تحت منديلها الأبيض أيضًا.

في طلاء باب المدخل الأنيق.

في الستائر الحريرية.

في غيوم صيف كثيفة ظهرت فجأة كأنها تغيظك.

في ريش الحمامة التي حطّت لتوها على السياج المتآكل.

البياض في كل مكان.

لكنه يتكثف في الرقعة الصغيرة أمامك، التي تحتلها ورقة لم تخط عليها بعد حرفًا واحدًا.

يعود إلى رأسك قول قرأته حديثًا: "الأبيض ليس لونًا، الأبيض حالة ذهنية".

فعلًا، ها هو اللون يتمدد، ويتقعّر، فلا يعود لونًا، يصير فراغًا.. فراغًا تامًا!

ثقب أسود من البياض الكثيف الذي يبتلع الآن كل محاولاتك بالنجاة، النجاة بالوسيلة الوحيدة التي تعرفها: الكتابة.

أنت الهارب من مساحات داخلك مزروعة بألم لا لون له، يصير الأبيض المتكثف أمامك كفنًا أيضًا، أنت الذي جئته آملًا بشراع، تشق فيه عباب هذا الوجع..

تدخل في حالة ذهنية بيضاء.

 

من ينتشل قلبك الآخذ بالسقوط؟

من يزيح أصابع الوحدة التي تتمدد في روحك كجذور شجرة عملاقة تنمو بقوة خارقة؟

من يكسر هذا الصمت الأبيض بالقليل من اللون فقط: بعض الحبر على هذه الورقة يصير كلمة تودّ قولها/صوتًا ينطق شيئا ما بلطف/ يدًا تهبط على كتفك/ذراعين تطوقانك/وجهًا يبتسم لك كلطخة لون في بياض لانهائي.

 

البياض يمنعك من الكتابة.

والبياض صمت ثقيل.

والبياض شخص وحيد أمام الفراغ، كمنتحر يتأمل العالم من هاويته المفترضة.

والبياض شرود سافر أمام التعب،

وهروب دائم.

والبياض حضن تركض إليه، فيختفي قبل أن تصل.

والبياض كتف، ترمي رأسك عليه، فلا تجده، وتتكسّر بعدها في فراغ ساحق.

البياض هو كل ما يخذلك.

كل ما خذلك.

أولها الكلمات،

وليس آخرها، ذاتك التي تغرق الآن في بياض

لا ينتهي.