28-أبريل-2023
تاريخ البودكاست العربي

صورة مولدة عبر نموذج الذكاء الاصطناعي (MidJourney/Ultrasawt)

الكل يتحدّث عن البودكاست، تقريبًا، سوى أمّي وأبي، وكافّة من أعرفهم وأتواصل معهم من الأقارب، وثلاثة أرباع الأصدقاء وتسعون بالمئة من المعارف والزملاء. هذا وأنا الذي كنت أظنّ أني الذي لا يفضّل الإصغاء، ويعجز، مذ ثورة كاسيتات الشيوخ في التسعينات أو بسببها، عن متابعة الخطب وإتمام المحاضرات. ومع ذلك، فإننا لا نعدم أن نسمع كل يوم من يحدثنا عن البودكاست، ويكتب عن ثورة في هذا القطاع، مقدّر لها أن تتعاظم في المستقبل القريب في العالم العربي ولا تضمحلّ، بعد أن بلغت ذروة مجدها منذ سنين في الولايات المتحدة وأوروبا.

لا يتوفر لدينا تاريخ معلوم للبودكاست عربيًا رغم الضجة الكبيرة حول الظاهرة

في مقالها الدوري الأخير في صحيفة العربي الجديد، تتحدث الروائية اللبنانية نجوى بركات بإعجاب فريد عن البودكاست، وتحيّي انتقامه من "دكتاتورية التلفزيونات" التي لا شاغل لها بحسبها سوى "تسطيح المعنى وملء الوقت". وهذا صحيح جزئيًا، خاصة إن كان يعني التحرّر من قيود البث المباشر وعنت متابعته، وإن صار هذا العنت اليوم في الراديو والتلفاز معًا أقلّ تطرفًا من الماضي، بفضل الأرشيفات المتوفرة للبرامج والنشرات على يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي. وهو صحيح كذلك باعتبار تسلّط الصورة وهيمنتها في عالم اليوم، وتغوّلها على حقّ الأذن ونصيب الخيال، رغمَ أنّ صانع المحتوى العربي في البرامج الرائجة من "البودكاست" قد ارتدّ على أعقابه، ونجح على ظهر الصورة وبهرجتها مجددًا وعلى حساب الصّوت، حتى بات النجاح يقاس بعدد "المشاهدات" على يوتيوب، وهو ما فتح الباب واسعًا للتندّر على هذه الصرعة وعدّتها؛ طاولة مستديرة، وميكروفون بإسفنجة سوداء كبيرة، و"هيدسيت" فاخرة، وإضاءة احترافية، وHoop، صار لدينا بودكاست/فيديوكاست، يستلب من التجربة السمعيّة أفضل ما فيها، ويقحم عليها الصورة بلا داعٍ ولا مسوّغ كما يرى كثيرون من المنافحين عن البودكاست في شكله النقيّ الصوتي الأوّل. 

أصوات من تحت الركام

ليس لدينا تأريخ عربيّ للبودكاست، حتى عبد الرحمن أبو مالح نفسه، ملك البودكاست بحسب وصفه، لا يملك جوابًا دقيقًا على هذا السؤال، وذلك حين سئل مرّة عن أوّل بودكاست في المنطقة. نتأخّر كثيرًا حتى نبدأ التفكير بأهمّية تدوين ملابسات نشأة مذهب أو مشروع أو اتجاه إعلامي جديد عربيًا، وكالعادة لا يبقى لنا سوى التحسّر على ما فات وضاع بعد أن تضيع الطاسة. أعرف مثلًا أن لكل صحيفة أجنبية كبرى مؤرخًا خاصًا بها أو أكثر. فالواشنطن بوست لديها شالمرز روبرتس (Chalmers Roberts)، وديفيد كيندريد، وهنالك غاي تاليس (Gay Talese) ونيكي آشر (Nikki Usher) في نيويورك تايمز، وديفيد ماكي في الغارديان. لكل صحيفة عريقة هناك سيرها الرسمية وغير الرسمية، وهو ما لا نستطيعه نحن بالمرّة. 

وبما أنه لا يتوفر لدينا تاريخ للبودكاست عربيًا، فالأسلم والأعلم البدء من حيث تتوفر البيانات، أي من الولايات المتحدة، أرض البودكاست ومهده، والعودة للعام 2004، تاريخ صدور أوّل بودكاست، وهو برنامج بسيط منسيّ الآن عن الأخبار والتكنولوجيا ويوميّات المقدّم، آدم كاري، وشؤونه الخاصة. لكن من الطريف ربما أن نذكر أن هذا البرنامج لم يحمل اسم "بودكاست"، بل كان عليه أن ينتظر بضعة أشهر، حتى ظهور مقال عبر الأطلنطي، في الغارديان البريطانية، للصحفي بين هاميرسلي (Ben Hammersley)، والذي أتى بهذه الكلمة المركبّة، ودوّنها في مقاله ذاك، بمحض الصدفة تقريبًا.

Ben Hammersley
بين هاميرسلي 

فما جرى يومها، كما يقول ريتشارد بيري في مقال له بعنوان "العصر الذهبي للبودكاست"، هو أن هاميرسلي قد سلّم مسودّة تقريره للغارديان حول هذه الظاهرة الجديدة، والتي ظلّت غير مسمّاة في متن المقال، والذي كان من الممكن أن يُنشر فعلًا، لولا أنّه كان أقلّ من الحد الأدنى الذي يسمح بإتمام العمود في الصحيفة، فطلب منه المحرّرون باللحظات الأخيرة إضافة جملة أو جملتين لإتمام النصاب. وهكذا كتب صاحبنا جملة صغيرة سيذكرها تاريخ البودكاست وسيدخل بها الرجل تاريخ اللغة الإنجليزية، وهي الجملة التي ولدت معها كلمة "بودكاست"، وهي جملة فارغة فعلًا قال فيها ما معناه: "وكيف يمكن يا ترى أن نسمّي هذه الظاهرة: هل نقول عنها بودكاست، أم مدوّنات صوتية؟" وهكذا ولدت الكلمة. 

بحسب مقال في البي بي سي، فإنه وبعد انقضاء بضعة أشهر على مقال هاميرسلي، حدثت واقعة عجيبة أخرى: تواصل معجم أكسفورد للغة الإنجليزية مع الصحفي، وجرى الحوار القصير الآتي:

       قاموس أكسفورد: سيد هاميرسلي، كنا نبحث عن أول استخدام لكلمة بودكاست في أي مصدر مكتوب، ولم نجد أصلًا للكلمة سوى في مقالك الصادر في 12 شباط/فبراير عام 2004، وليس لدينا أي شاهد سابق. هل أنت من ابتكر هذه الكلمة حقًا؟

        هاميرسلي: نعم، أنا من ابتكر هذه الكلمة، وأنا أوّل من كتبها في نصّ منشور.

وهكذا دخلت الكلمة قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية عام 2005، وبعدها بعامين وجدت الكلمة طريقها إلى معجم ميريام-ويبستر الأمريكي.

هذه هي النسخة الموجزة وحسب من قصة ولادة هذه الكلمة واستحداثها وشيوعها حتى اصطلح عليها العالم أجمع اليوم بمختلف اللغات. فثمة نقاش طويل حول ما إذا كان هاميرسلي حقًا هو أوّل من فكّر بها وكتبها أم أن غيره قد سبقه إليها في بعض المدوّنات غير المعروفة في العام 2003 ومطلع العام 2004. وهنالك رجل أمريكي يدعى داني غريغواير، يدّعي أنه قد سبق إلى كتابتها، لكنّ أحدًا لم يعرفه وقتها، وقد كان بالفعل أول شخص اشترى نطاقًا على الإنترنت بعنوان "بودكاستر"، لكن تاريخ إنشائه يعود إلى أيلول/سبتمبر عام 2004. وثمة مراجع ومقالات تأخذ بيدك لو أردت لمعرفة متى استخدمت الكلمة في كلّ وسيط إعلامي؛ متى نطقها أول مذيع على التلفاز، ومتى استخدمت أول مرّة في برنامج راديو، ومتى نوقشت أول مرّة في برنامج بودكاست. يُذكر مثلًا أن الكلمة لم تستخدم بعد مقال هاميرسلي في أية صحيفة أو مدونة أو وسيلة إعلامية وغابت ونسيت حتى الربع الأخير من العام 2004، أي بعد مضي سبعة أشهر تقريبًا على مقال الغارديان، وذلك حين عاد البودكاست عبر المحيط كلمة بعد أن غادرها فكرة، فظهرت في لوس أنجلوس تايمز في تشرين الأول/أكتوبر 2004، وفي نهاية الشهر ذاته في نيويورك تايمز، ومنها إلى بقية الصحف والمجلات.

لكن التاريخ الحقيقي لصعود البودكاست لم يبدأ حقًا إلا في العام 2014، وذلك حين نجح برنامج واحد في إطلاق ثورة جديدة في هذا المجال، وهو برنامج "سيريال"، الذي سبق أن تحدثنا عنه في مقال سابق، باعتباره البودكاست "المنجي" من السجن الأبديّ لعدنان سيد، وهو بحق البرنامج المنجي والمنعش والمحيي لهذه الصنعة بعد عقد كامل من خمولها، والتي ظلت تراوح مدىً في ذلك البرزخ العميق بين الراديو التقليدي والبث عبر الإنترنت.

سارة كونيغ
سارة كونيغ مقدمة برنامج "سيريال" 

هنا يساعدنا التأريخ والتوثيق على فهم ما حصل في سياقه، فمثل هذه التغيرات الكبيرة لا تحصل هكذا من فراغ، بل لها عوامل تفسيرية عديدة، يشعر أحدنا بالامتنان الكبير لتوفّر ما يساعده في التعرّف إليها. ففي الدراسة المشار إليها أعلاه، والتي صدرت عام 2015، ونشرت في مجلة دراسات الراديو والإعلام السمعي (Journal of Radio and Audio Medi) عام 2015، فبرنامج "سيريال" والنجاح الذي حازه كان ثمرة كدّ طويل من قبل فريق الإعداد على مدى عام بأكمله من الدراسة والبحث والمقابلات والمناشدات والاستجداء من أجل مكالمة هاتفية مع عدنان صاحب القضيّة، أو مقابلة مع أحد الشهود أو الأقرباء، أو الحديث مع أهل الضحية. كما أن النجاح الذي تحقق، وفق ذات الدراسة، هو غنيمة مستحقّة لبرنامجٍ كان يبثّ على الأثير من قبل الشركة المنتجة نفسها، وهو برنامج "ذا أمريكان لايف"، وهو أحد أهم البرامج الإذاعية وأكثرها تأثيرها وحضورًا في الولايات المتحدة على الإطلاق. لقد استفاد "سيريال" من هذه الشرعيّة الصحفيّة الإذاعية الراسخة للقائمين عليه، مع الاستفادة في الآن ذاته من طبيعة البرنامج الاستقصائية، والذي طرح على الإنترنت في عام استثنائي في الولايات المتحدة، شهد انتخابات رئاسية، ونمت فيه حركة "حياة السود مهمّة"، وتعاظمت فيه النقاشات حول العدالة الاجتماعية والعرقية والمساواة، وكل ذلك في فترة كانت فيها أعداد روّاد البودكاست تتضاعف بشكل مطرّد بين الأمريكيين، وتتزايد فيها أيضًا استفادة المنصّات والناشرين من شبكات التواصل الاجتماعي  في الترويج للبرامج.

ولعله من الضروري الإشارة هنا، كما يرى أحد الأصدقاء أثناء دردشة إلكترونية معه حول البودكاست، إلى إمكان افتراض لحظة استحواذ/اقتناص طبقية للبودكاست، حصلت أثناء فترة العبور من عالم الراديو، وهو العالم المتاح عمليًا للجميع بلا استثناء، في سياراتهم أو أماكن عملهم، بصرف النظر عن أوضاعهم الاقتصادية وخلفياتهم الثقافية. ثمّة تحوّل طرأ حين بدا أن البودكاست، بحكم السلوك الخاص بإنتاجه واستهلاكه، أقرب إلى تلك الطبقة التي تتوفر على فرص تعليم ودخل وإمكانات تقنية أعلى. هذه الملاحظة تسندها بعض الدراسات والمؤشرات، التي يمكن ولو على مضض سحبها على السياق العربي، لعدم توفّر دراسات مرادفة يمكن الاعتماد عليها. 

زكي وزكية الصناعي

ففي الولايات المتحدة، أجريت دراسة عام 2021 بيّنت الارتباط بين تزايد الاهتمام بالبودكاست مع ارتفاع المؤهّل العلمي والدخل الاقتصادي، وبفارق يبلغ 25% عن الأقل تعليمًا أو ذوي الدخل المحدود، وهي نسبة فارقة ومؤثرة، ويهتم بها المعلنون كثيرًا، خاصة إن كانوا مهتمين لنوعية الجمهور لا حجمه. في المقابل، فإن هذه الافتراضات، وإن كانت وجيهة، إلا أنها لا تسلم من الانتقادات، ولاسيما في الولايات المتحدة التي تعدّ قارّة البودكاست بحقّ، والتي يتجاوز عدد المستمعين للبودكاست فيها 30 بالمئة من الأمريكيين فوق سن الثانية عشرة، وفيها نطاق بالغ السعة من البرامج في شتّى المواضيع بما فيها المواضيع الترفيهية والخفيفة والمختصرة، ما يزيد بشكل كبير من فرص اهتمام المزيد من الناس بالاستماع إلى ما يروقهم، وقتما يروقهم، علمًا أن إيرادات هذا القطاع تتجاوز مليار دولار سنويًا في تلك البلاد. هنا أيضًا أذكر تعليقًا ذكيًا من الصديق ذاته، أشار فيه بعجب إلى فرط الجدّية في برامج البودكاست عربيًا والمواضيع التي تطرقها، كأن ذلك تأكيد على انفصال عن عالم الراديو الترفيهي والعام، أو رغبة في التفريق بين "قمّة" و"قاع"، وذلك في مقابل التنوّع والخفّة والطرافة مشهد البودكاست في السياق الأمريكي مثلًا، حيث يمكن على منصات البودكاست الاستماع إلى شيء عن أي شيء، حرفيًا. (يقدّر عدد حلقات البودكاست على منصّة آبل وحدها بأكثر من 3 ملايين حلقة). 

هكذا إذن، فإن الحديث عن ثورة البودكاست عربيًا، و"عودة الحكّائين والرواة وهواة السرد"، بحسب ما يبشّر به المبشّرون، وعودة الصوت إلى واجهة النقاش والتأثير، واعتباره أكثر ديمقراطية من قنوات التلفزة وأكثر ثراء من محطات الراديو، وأنه على عكسها جميعًا لا يتطلب تمويلًا ولا رعاية، هو حديث حالم ما دامت لا تسنده الأرقام، وترفضه الصورة المهيمنة حاليًا لصنعة البودكاست العربيّة، التي يفرط اعتماد الرائج منها على التمويل والرعاية والترويج، والقدرة على استقطاب المشاهير وإعادة إنتاج المؤثرين.