04-فبراير-2021

طفل يلعب دور مذيع في جهاز تلفزيون قديم (Getty)

مخدرًا مسلوب الإرادة، أجلس أمام التلفاز. تعصب المذيعة الصاخبة عيني ضيفتها الفنانة، ثم تأمرها بأن تمد يدها إلى صندوق زجاجي. تنصاع الضيفة فتلامس يدها سحلية مخيفة. تقهقه المذيعة مطلقة بذلك إشارة إلى جمهور الاستديو الذي سرعان ما يضج بضحك مدو. ولا تتأخر الفنانة بالانخراط في موجة الضحك الهستيري هذه.

منذ نحو عقد، اكتمل تبلور توجه محدد لدى صناع الإعلام العربي، يقوم على النهوض بصناعة السعادة لدى الجمهور، بخلق عالم خفيف من البهجة والمرح والفرفشة

تستضيف مذيعة أخرى، على شاشة أخرى، ممثلًا مشهورًا وزوجته، وتخضعهما لهذه اللعبة "المرحة": توجه سؤالًا لأحدهما وعلى الثاني أن يقيّم إجابته بلوحة على وجهها علامة "صح" وعلى وجهها الآخر علامة "خطأ". تسأل المذيعة الممثل إذا ما كان يساعد زوجته في أعمال المنزل، فيحيب بنعم، غير أن زوجته تسارع إلى رفع علامة الخطأ. ثم يأتي دور الزوجة فتسألها إن كانت تحب حماتها، تجيب بنعم، فيتصدى لها زوجها ليرفع علامة الخطأ، لكنه يدعي الخوف من نظرة زوجته فيقلب اللوحة على إشارة "صح".. وبالطبع يغرق الجميع، الضيفان والمقدمة والجمهور، في سيل من الضحك.

اقرأ/ي أيضًا:  لطالما أنقذتنا الطرائف: المزاح في زمن ستالين

أغيرُ إلى محطة ثالثة، هنا برنامج عربي يحاكي برنامجًا فرنسيًا، فيستضيف ممثلين ومطربات وسياسيين ورياضيين ومصممات أزياء.. ويتفنن المذيع في تحويل كل هؤلاء إلى مهرجين، إذ يجبر السياسي على الرقص، والمطربة على رواية نكتة بذيئة، والرياضي على تقليد المطربة.. والحصاد ضحك وفير، ضحك حتى الدموع.

أتذكر نصًّا لميلان كونديرا يتحدث فيه عن "الهزل الخالي من الفكاهة"، وإلى جانب الهزل التلفزيوني يستعرض كونديرا مشاهد من روايات، حيث "الشخصيات التي تضحك أكثر لا تمتلك حس الفكاهة الأكبر، على العكس هي لا تملك شيئًا من هذا الحس". ويستذكر على الأخص مقطعًا من "أناشيد مالدورور" للوتريامون: "مدهوشًا، يكتشف مالدورور ذات يوم أن الناس يضحكون، غير مدرك معنى تجهمه الغريب هذا، ورغبة منه في أن يكون كالآخرين، يأخذ سكينًا ويقطع مقرن الشفتين".

أحتاج إلى القيام بالفعل نفسه: أن آخذ سكينًا وأقطع مقرن شفتيَّ، كي أجاري هؤلاء الضاحكين ملء أشداقهم، ذلك أن ما يقدمونه هو ضحك بلا سبب، بلا مفارقة أو حافز حقيقي.. "هزل خال من حس الفكاهة". هؤلاء المهرجون المرخصون، الضاحكون بأجر، المكلفون رسميًا بإضحاكنا.. هم من يصنعون هذا العالم "الهزلي الخالي من الفكاهة، حيث حكم علينا بالعيش"، حسب تعبير كاتب "المزحة".

يريد الإعلام ببساطة تجسيد نكتة نجيب الريحاني: "يطعموننا بصلًا ويجعلوننا نتجشأ تفاحًا"

منذ نحو عقد، اكتمل تبلور توجه محدد لدى صناع الإعلام العربي، الرسمي وشبه الرسمي، وينص هذا التوجه على النهوض بصناعة السعادة لدى الجمهور، بخلق عالم خفيف من البهجة والمرح والفرفشة. والفلسفة الكامنة وراء هذا الدور الجديد تلخصها المعادلة التالية: الظروف العربية سيئة ومرشحة إلى مزيد من السوء: ميدان السياسة ضُبط وأُحكمت أبوابه مجددًا، والاقتصاد منهار، والصحة متراجعة بلا أمل في الشفاء، والتعليم يغذ الخطى إلى الوراء.. ولا شك أن كل هذا يولد استياء لدى شريحة واسعة من الناس، ويتسبب في احتقان قد يؤدي إلى انفجار جديد.

اقرأ/ي أيضًا: بيل موري: حس الفكاهة نوع من الالتزام

وبما أن الظروف ستبقى على حالها، إذ لا يملك صناع الإعلام تغييرها، بل هم لا يريدون ذلك أصلًا، فإنهم قرّروا التوجه نحو الشطر الثاني من المعادلة، أي تغيير شعورنا نحن نحو هذه الظروف. قرروا أن يجعلونا سعداء رغمًا عن أنوفنا، نقضي أمسياتنا بلا هم، أمام مهرجين مكلفين بإضحاكنا. يريدون ببساطة تجسيد نكتة نجيب الريحاني: "يطعموننا بصلًا ويجعلوننا نتجشأ تفاحًا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

البرامج الغنائية في العالم العربي.. حرب أخرى

أعطونا "الكنتاكي" وخذوا ما يدهش العالم

صورة ساخرة