16-يوليو-2016

أنصار الديمقراطية يدافعون عنها في وجه الانقلاب في شوارع أنقرة (الأناضول)

هل انجلت السحابة عن تركيا؟ الدولة تقول لا وكثير من التكهنّات ما تزال تلف الموقف برمّته. ما يزال الحديث حتى لحظات كتابة هذه الأسطر يدور عن بعض دوائر الجيش التي ترفض الانصياع ودوائر أخرى تحاول إعادة ترتيب نفسها والحكومة تدعو الناس للاعتصام بالشوارع لمواجهة أي محاولات لإتمام هذه المحاولة الانقلابية.

قد تكون تحذيرات الحكومة وقيادات في العدالة والتنمية الحاكم مبالغة في كسب الحدّ الأعلى من التلاحم الشعبيّ مع شرعيّتها وإحكام السيطرة على الأمور

وقد تكون تحذيرات الحكومة وقيادات في العدالة والتنمية الحاكم مبالغة في كسب الحدّ الأعلى من التلاحم الشعبيّ مع شرعيّتها وإحكام السيطرة على الأمور، ويبدو بالفعل أنّ الحشود استجابت لهذه الدعوات بكثافة منقطعة النظير، ولأكون صريحًا، لم تكن متوقّعة.

اقرأ/ي أيضًا: 3 أسباب رئيسية لفشل الانقلاب العسكري في تركيا

كانت هنالك حالة من الاحتقان كبيرة في الأسابيع، بل الأشهر العديدة الماضية في تركيا. الحرب قائمة فعلًا مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني، مناطق دمّرت بالكامل، الكثير من الضحايا والقتلى من الطرفين، وسقوط أعداد كبيرة من المدنيين سواء بالهجمات الانتحارية التي نفذها الحزب في عدة مناطق أو على يد قوات الجيش التركيّ أثناء دخول المناطق التي يتحصّن بها مقاتلو الكردستانيّ. تزامن ذلك مع تراجعٍ في شعبيّة أردوغان نتيجة تدهور الاقتصاد وتراجع السياحة بالإضافة إلى ما وصفه الكثيرون من ملاحقة الناشطين السياسيين والإعلاميين والتضييق على الحريات الإعلاميّة.

ثم جاء تورّط البلاد في أزمة دبلوماسية حقيقيّة مع روسيا عند إسقاط طائرتها الحربية ومقتل أحد طياريها في تشرين الثاني العام المنصرم، وتأزّمت العلاقات مع أمريكا وأوروبا بخصوص قضايا شائكة كثيرة منها الموقف من الأسد، والأكراد، وبالتأكيد قضية اللاجئين وتدفقهم إلى أوروبا. ثم زاد الطين بلّة ما أقدم عليه أردوغان حين نحّى رئيس وزرائه وصديقه المقرّب أحمد داود أوغلو، أحد أهمّ الشخصيات السياسيّة المؤثّرة في المشهد التركيّ وصاحب الحصّة الكبيرة من تعاطف الشعب ومحبّته، وقد كشفت هذه الخطوة عن توجّهات أردوغان للاستئثار بالقرار السياسيّ في البلاد، خاصّة بعد اختياره رئيس وزراء يقرّ بالتبعيّة المطلقة له، وهو بنعلي يلدريم. خلافات شديدة مع أحزاب المعارضة حول الدستور الجديد وقانون رفع الحصانة عن النوّاب، ويمكن أن تضيف إلى هذه الخلطة كلّها تلك الموجة التي أخذت تتصاعد بين بعض أطياف القوميين المتعصبين الأتراك ضدّ العرب والتي جاءت على شكل دعوات للاحتشاد ضدّ توجّهات الدولة لمنح جنسيّات للسوريين وضجّ تويتر في تركيا بانتقاد اللاجئين السوريين وتسليط الضوء على تصرفات بعض العرب السلبيّة في تركيا وغير ذلك.

وفي بلد ذي تاريخ لا يخفى على أحد في الانقلابات العسكريّة حتّى صارت موقع تندّر بين الأتراك أنفسهم في بعض نكاتهم، فلا يمكن أن يكون هذا المشهد سوى وصفة جاهزة وكاملة للإقدام على انقلاب عسكريّ على الحكومة الشرعيّة.

اقرأ/ي أيضًا: تركيا... انقلاب أو تمرد

مكان الجيش  في الثكنات وعلى الحدود لا في البرلمان ومقارّ الرئاسة

ولكنّ العنصر الغائب والأساسيّ في هذه الوصفة والذي غفل عنه مدبرو الانقلاب ومن مهّد له من أطراف داخلية وربما خارجيّة، ومن صفّق له من إعلام غربيّ وعربيّ، هو الشعب الذي علّمته التجربة الديمقراطية خلال العقدين الماضيين تقريباً أنّ الجيش مكانه في الثكنات وعلى الحدود لا في البرلمان ومقارّ الرئاسة. كان هذا أمرًا مجمعًا عليه تمامًا من قبل الشعب بجميع أطيافه، مؤيدًا للعدالة والتنمية أو معارضًا له.

لقد حصل الأتراك في عقدين من الزمن على ما حرموه طيلة عشرات العقود قبلها: أحزاب فاعلة تمثّلهم في برلمانات قويّة وصاخبة ليست خائفة من تدخّل بساطير العسكر في أية لحظة. يمكن بطبيعة الحال أن نتكلّم حتّى الصباح عن فاعليّة هذا التمثيل الديمقراطيّ ومثالب الأحزاب التركية التي لا تتمتّع هي بقواعد ديمقراطيّة داخل أحزابها، ويمكن أن نتجادل كثيرًا في أخلاقيات الديمقراطية التركيّة وتجربتها الحديثة، ولكنّ الأمر الذي اتّفقت عليه هذه الأحزاب على علّاتها وعلّات قادتها هو أنّه ما من سبيل لعودة العسكر لحكم البلاد. الشعب أوصلنا للحكم والبرلمان وليس ثمّة سوى الشعب ليحرمنا من حقّ تمثيله.

معروف أنّ نسب المشاركة في الانتخابات في تركيا من أعلى النسب على مستوى العالم

إن الحالة الديمقراطية التركيّة، واعذروني إن كررت وقلت- على علّاتها- وما شهدته السنوات الماضية من تنافس وسباقات سياسيّة ميدانها الوحيد هو الصناديق وحكمها الوحيد هو الشعب، هي التي وقفت حصنًا ضد الانقلاب. هذه الحالة انتقلت إلى جيل جديد من الأتراك عايش الديمقراطية وخبرها وربيَ عليها، هذا الجيل الذي نفض حالة "اللامبالاة" السياسيّة عنه، وينخرط بكل نشاط ووعيٍ وأمل بالانتخابات في كل دورة، ومعروف أنّ نسب المشاركة في الانتخابات في تركيا من أعلى النسب على مستوى العالم. أذكر مرّة أنّ النقاش قادني في أحد المحاضرات مع طلبتي إلى الحديث عن الانقلابات، وسألتهم عمّا سيكون موقفهم لو حصل انقلاب في تركيا، وكان الجواب واحدًا رغم اختلاف مواقف الطلبة السياسية: قد نموت قبل أن ينجح انقلاب في بلدنا.

ورغم ما قد يبدو من بديهيّة ما تطرّقت إليه: شعب، انتخابات ديمقراطية، حكومة شرعيّة، احترام إرادة الشعب، إلا أنّ البعض ما يزالون يعتقدون أنّ الأمر من قبل ومن بعد لحاكم أوحد لا شريك له هو أردوغان، والبعض الآخر يصدّقون حتى اللحظة أنّ العسكر وحكمهم خيرٌ من حكومة على رأسها رجل إسلاميّ. والصورة الخلفيّة من ورائنا مع كل أسف: بسطار كبير أو بدلة فاخرة مدعومة ببسطار كبير.

اقرأ/ي أيضًا: 

سكاي نيوز عربية.. ما هكذا يُصَدق الكذب

الإعلام العربي وتركيا.. أخطاء بمستوى فضائح