27-أكتوبر-2020

حريق غابة في ريف اللاذقية، 10 أيلول/سبتمبر 2020 (Getty)

أعادت حرائق الشهر الحالي التي اندلعت في ريف اللاذقية على مدار ثلاثة أيام، وما رافقها من بيانات بالتشفي وبالتشفي المضاد، النقاش حول طبيعة الموقف الأخلاقي، هل هو عام وكوني ينطبق على جميع الناس بغض النظر عن عاداتهم الاجتماعية وأحوالهم الاقتصادية والسياسية، كما حاول الفيلسوف الألماني كانط أن يبرهن على ذلك. ففي عرفه أن السلوك الأخلاقي، السلوك اليومي الحميد للفرد، تجاه قضية محددة يجب أن يكون مستندًا إلى العقل وحده، فما دامت قواعد العقل عند جميع الناس واحدة فإن على سلوكهم الأخلاقي أن يكون موحدًا، فالموقف الأخلاقي من النار السورية يحتم على كل سوري التضامن مع ضحاياها بغض النظر عن المصلحة التي يرجوها من ذلك، ذلك أن فكرة الواجب الأخلاقي هي فوق كل لذة أو منفعة.

الأعداء في العرف الاجتماعي لا يستحقون التضامن، إنهم آثمون بالمطلق، وما مصائبهم سوى دليل على سوء أفعالهم وأخلاقهم معًا

يبدو حديث كانط عن الموقف الأخلاقي في عموميته متعاليًا عن نوازع العنف والتنافس والسيطرة التي تلقي بظلاها على سلوك الناس في مختبر الحياة الحية، فأن يتضامن الناس تجاه مواقف محددة لا ينفي عنهم التنازع حول حول قضايا أخرى. وبينما يبدو من الطبيعي أن يتضامن الناس مع معارفهم أو مواطنيهم أو أناس محايدين عنهم، فإن الأمر ليس بهذه السهولة حين يتعلق الأمر بخصومهم أو منافسيهم، وكيف هو الأمر بأعدائهم؟

اقرأ/ي أيضًا: مصادر أمريكية: واشنطن تستطلع نية نظام الأسد للتطبيع مع إسرائيل

الأعداء في العرف الاجتماعي لا يستحقون التضامن، إنهم آثمون بالمطلق، وما مصائبهم سوى دليل على سوء أفعالهم وأخلاقهم معًا. فكيف لنا ضمن هذا السياق أن نطالب من اكتوى بعدوانية النظام بأن يسارع للتضامن مع أنصاره وكأن الموقف الأخلاقي منهم مجرد نزهة.

منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة وهو يشيع خرابًا أخلاقيًا لا حدود له ، في أخلاق محازبيه كما في أخلاق رعاياه، وإلا كيف أمكن لرجل متواضع الملكات الذهنية أن يصير إلهًا متوجًا في غضون عشرة سنين. فمن أجل أن يصل إلى مبتغاه عمل كل ما في وسعه لتدمير قوة الواجب الأخلاقي المتسلح بالعقل عند الناس، كما لم يوفر جهدًا في ترسيخ العماء الروحي عندهم. فأن تكون في صف حافظ الأسد يعني أن تقبل بنزع الصفة الإنسانية عنك، أن تصير مسخًا شيطانيًا، طائعًا ذليلًا لنزواته، فحين يقول لك اقتل تقتل وتتلذ، فالقتل طريقك إلى الرفعة والمجد، وحين يقول لك عذّب تعذب، فآلام الناس لا تثير عندك أدنى شفقة.

أن تكون في صف الأسد يعني أن تصير على شاكلته حاكمًا قاسيًا بلا قلب، تقتل كما لو كان الأمر نوعًا من تزجية الوقت، وإلا من أين لك أن تستمد كل هذه الشجاعة الأخلاقية لرمي القنابل العمياء على رؤوس الناس وأطرافهم، تجويع رهائنك حد الموت، ومن ثم تعفيش كل ما يأتي في طريقك، بما فيها ألبومات صورعائلة ضحاياك.

في سوريا، يتحدث الموالون طويلًا عن إنجازات الأسد العظيمة، ويتغافلون عن إنجازه الفادح في تحويل السوريين إلى مجموعات من ملل ونحل لا رابط بينها سوى التشفي والحقد، على النحو الذي ذهب عليه أحمد كامل مراسل الجزيرة السابق: "إذا كنت غير قادر على الحزن على حرائق اللاذقية، فأنت إنسان طبيعي، لا تصدّق شتائم وبذاءات الحكواتية والمنافقين والأعداء بحقك".

الذي اتخذوا موقفًا نقديًا من بيانات التشفي التي صدرت عن بعض الناس المعارضين للسلطة، سجلوا موقفًا شجاعًا في عدم رغبتهم الانجرار لحرارة ردة الفعل حيال العنف الأسدي، مفضلين بدلًا من ذلك الانحياز لإنسانيتهم الكبيرة التي طالما حلموا بها. ولكن ماذا عن المتشفين، أولئك المظلومين، الذي عاينوا أجساد أحبتهم تحت رماد منازلهم، الذي وجدوا أنفسهم مشردين في مجاهل الأرض ومغاربها، الذين انتظروا عادلة إنسانية لم تأت، وحين جاءت النار فرحوا بها.

أن تكون في صف الأسد يعني أن تصير على شاكلته حاكمًا قاسيًا بلا قلب، تقتل كما لو كان الأمر نوعًا من تزجية الوقت

يرتبط التضامن في أعماق الفرد بفكرة البراءة، فكل بريء هو موضع تضامن إنساني كبير، أما الظالمون والقتلة فلا تضامن معهم، ربما هذا هو لسان من فضل التشفي على التضامن مع أبناء القرى التي التهمتها النار.

اقرأ/ي أيضًا: أخوية الجيش.. التراشق بحبات البطاطا

من جهة أخرى، ثمة صلة عميقة بين التشفي والعجز، فطالما ظلت الضحية عاجزة عن الحصول على حقها في عدالة غير منجزة فإنها ستظل تتشفى، قد يكون التشفي فعلًا لا أخلاقيًا، ولكنه في حده الأدنى نوع من التوازن النفسي في ظل واقع يعامل القاتل كبطل قومي وصانع أمجاد من النوع الكبير، فيما قيمته الحقيقة لا تتعدى السطو على أرواح الناس وأفراحهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا يعني قانون "قيصر" للنظام السوري؟

هل عادت الفرصة لإسقاط الأسد؟