20-أبريل-2022
لوحة لـ شوقي شمعون/ لبنان

مقطع من لوحة لـ شوقي شمعون/ لبنان

اعتدت في زياراتي المبكرة إلى البحر على التواصل مع عناصر الطبيعة كالهواء والماء وحبات الرمل التي كوّنها الزمن. مع الوقت انفصلت عنها أكثر مما اقتربت منها، صار الهواء يسحق الأصوات من حولي، والماء يوحي لي بالغرق لا النجاة. لكنني حافظت على محاولاتي البائسة في استبدال هذه الزيارات بحاجات أريدها لنفسي. 

في فترات الجزر جاءتني فكرة البحث عن الذهب. 

في مواجهة البحر، الحياة لها وجهان، وجه طيب وآخر موحش. هذه الحياة التي تنقسم على حالها مرعبة، رتيبة وقاحلة في سلمها

 

هذه الفكرة جعلتني، في كل صباح أذهب فيه إلى البحر للبحث عن حياتي، أنشغل بالنظر في الرمل وما انغرز فيه وعلق من ممتلكات من جاؤوا من قبل. أثناء جولاتي على الشاطئ حصلت على كنوز أكبر من ذلك الذهب الذي سقط من عنق الحياة وأحاول أن استرده. وجدت نجمة بحر ميتة، مجسم سيارة رياضية يحلم بها ابني المراهق. ولاعات صدئة، مجسمات حيوانات من البلاستيك، بقايا بسط من الصوف، فراش وأمشاط شعر والكثير من الجوارب، كلها أملاك سقطت من أصحابها وهم يتعاركون مع الماء. كانت رغبتي كبيرة أن أجد ذهبًا خالصًا على شكل قلادة أو عقد أو سوار.

مقابل هذا البحث عن الذهب كنت أبحث أيضًا عما يفسد السكينة، ما يكسر العناوين التي توضع فيها مسيرة الحياة، مثل إشهار طلاق أو ارتباط، ولادات ووفيات. منجزات توضع على روزنامة الحياة من دون أن يقرر أصحابها. 

كل ما وجدته كان متعلقات أتلفها الماء المالح وفقدت بريقها، فقدت سبب وجودها. كذلك هذه الحياة قد فقدت بريقها. 

عند الشاطئ المحصور بين مبنى لمطعم فرنسي ولسان خشبي يمتد داخل البحر من أجل هواة الصيد، كنا هناك أنا وفتي يملك لياقة بدنية حسدته عليها. كان يعدو مطاردًا الهواء، فيما كنت أترك الهواء يتخللني. تتبدى فروقات الحياة عند عتبات أعمارنا، ليس فيها لا حكمة ولا تبصر، هي هكذا. حين نُسلب ما تمنحنا إياه الحياة ليأخذه آخرون. اعتدت على رؤيته وما أضاف شيئا على الظاهر من الحياة.

في مواجهة البحر، الحياة لها وجهان، وجه طيب وآخر موحش. هذه الحياة التي تنقسم على حالها مرعبة، رتيبة وقاحلة في سلمها، كلما حققنا شيئًا من سعادة وجدناها تتبدى سرابًا. وفي وحشتها نشتهي ذلك البطء والرتابة اللذين يزحفان في النهارات ويسْكران العينين. 

في إحدى زياراتي للشاطئ لم يكن بي رغبة في مقارعة الهواء، ولا أن أمد ذراعين مطاطيتين صوب القمر، ولا أن استسلم لحدود علاقات ترسمها لي بلاغة اللسان ولا حتى منارات الموانئ البعيدة. لم أجد أمورًا تثيرني. الإثارة كانت في داخلي، في عصف الحياة، التي في كل مرة أحاول أن أدجن نفسي عليها، تفر فرار عقاب أدمن الطيران في الأعالي.  

يقترب ذلك الفتى مني وبفضول يسألني عن تلك الأشياء التي أحملها بين يدي وأضعها في كيس من البلاستيك.  

أشرح له بإسهاب، وأنا أنظر في ذهب عينيه الذي يبرق. أقول له: إنها متعلقات أطفال جاؤوا بالأمس أو قبل الأمس، ربما قبل عام، وأشياء أخرى أصبحت عديمة الفائدة، لست متأكدة من عمر هذه المتعلقات لكنها تثير مخيلتي تماما كما يحرك ذهب عينيك ولعي بهذه الحياة.

لم يسمع بقية جملتي، ظلت في حلقي عالقة. اكتفيت بذهب هذا النهار مجسدًا أمامي، اكتفيت بما أملكه من حواس خمس لا تزال حرة طليقة وبروح دفينة تضحك من مطبات الهواء والأهواء. 

كانت الشمس قد رسمت قرصها عاليًا وخففت من لسعة البرد التي صاحبت بداية النهار، بنورها أضاءت عتمة القلب وحررته من ثقل القدمين المغروزتين في الرمل

كانت الشمس قد رسمت قرصها عاليًا وخففت من لسعة البرد التي صاحبت بداية النهار، بنورها أضاءت عتمة القلب وحررته من ثقل القدمين المغروزتين في الرمل. 

في الأيام اللاحقة اعتدت رؤية الشاب قد سبقني منتظرا، تركته يفعل هذا حتى يجد ما يبحث عنه. صار لنا أسماؤنا التي ننادي بها بعضنا البعض، وصار للمعان الذهب وزنه.

قلت له والماء لم يعد يفصل بيننا: ها هو الماء كي نغرق به أو كي تغرق أشياؤنا دوننا، فماذا تريد؟  

رفعتني الموجة قليلًا ثم قربتني منه، قربت كتفي من كتفه، قربتني من قلبي، قربته من ضحكتي، من أشياء أردنا أن نخلفها وراءنا، لربما وجدها باحثون عن المعنى الأجمل لهذه الحياة.