16-أغسطس-2015

احتجاجات طلابية في الأردن (Getty)

يتعامل طلبة جامعاتنا مع مادة "مناهج البحث" كمادة فائضة عن الحاجة، بل إن الطالب يكاد يقع في حيرة من أمره بسبب وضعها ضمن مواد خطته الدراسية، وذلك لأن أساتذته في مرحلة البكالوريوس يتعاملون معها على أساس أنها مادة سيفهمها الطالب في مرحلة الدراسات العليا، ويكتفون بتدريسه المادة بطريقة المحفوظات. فنجده يحفظ تعريف مشكلة البحث وأهدافه وأهميته دون أن يحاول فهمها، ودون أن يعرف أنه من غير المطلوب منه حفظ هذه المفاهيم. 

يتجه الطلبة إلى محاولة إرضاء أستاذ المادة من خلال كتابة البحث بما يتوافق مع مزاجه الشخصي

بينما أساتذته في مرحلة الدراسات العليا، سيتعاملون مع هذه المادة انطلاقًا من أنها أساسيات يفترض بالطالب أن يكون ملمًّا بها، وليس من واجب الأستاذ أن يدخل في هذه التفاصيل. ولا نريد أن تأخذنا هذه الملاحظات إلى الحكم بأن هناك تواطؤًا مضمرًا بين نسبة كبيرة من أساتذة الجامعات هدفه التهرب من تدريس هذه المادة، لأن هذا الحكم قد يظلم أساتذة مميزين لم تتح لهم فرصة تدريسها. كما أن هذا المقال إذ يسلّط الضوء على ظاهرة منتشرة في الجامعات فإنه لا يقصد التعميم.

أذكر أنني في بداية مشواري في برنامج الماجستير، لا أزال طالبًا، سجلتُ هذه المادة عند باحث متميز، غير أنني اكتشفت أنهم بدلوا لنا مدرس المادة، واستبدلوه أستاذًا يجيد الحديث عن فن الطبخ واهتماماته أكثر مما يجيد التدريس. لكنه، والحق يقال، كان يعطينا وقت المحاضرة كاملًا رافضًا أن يتنازل عن دقيقة واحدة من الساعات الثلاث. وذلك بنية الأجر والثواب، وانطلاقًا من قاعدة الحلال والحرام. 

وكان لأستاذنا أسلوب مشوّق في الحديث، فهو ينتقل بين حكاية وأخرى على مذهب "ألف ليلة وليلة"، ويجعل من عنوان المحاضرة "منهجية البحث" الإطارَ الذي ينظم كل هذه الحكايات. فعلى سبيل المثال يحدثنا عن رحلته إلى بريطانيا عندما التقى في المطار بامرأة كانت تقرأ في رواية، فسألها إن كانت ناقدة أدبية أم كاتبة، ولكنها صدمته عندما اكتشف أنها طبيبة أسنان، وهنا، وبعد ربع ساعة من الكلام، يتذكر أننا في محاضرة، فيصرخ فجأة "إعداد مثل هذه المرأة هو في صميم عمل مناهج البحث". ثم يتنقل لرواية قصة حدثت مع الرسول محمد أو أحد الصحابة، وعندما ينتهي يعاود الكرة "صدقُ الرسول هنا هو منهج بحث"، وهكذا دواليك حتى يجهز على الوقت كاملًا.

أمّا الأبحاث التي يكتبها الطلبة نتيجة لتعلّم هذه المنهجية فمن الطبيعي أن تتجه نسبة كبيرة منهم إلى استسهال سرقة أول بحث يعثرون عليه في شبكة الإنترنت، أو إلى استخدام المراجع والمصادر الورقية بطريقة القص واللصق. 

بينما يتجه الطلبة ذوو التحصيل العلمي الممتاز إلى محاولة إرضاء أستاذ المادة، وذلك من خلال كتابة البحث بما يتوافق مع مزاجه الشخصي. وقد أخبرني صديق سعودي، يدرس الأدب والنقد، أنّ أحد أساتذته مغرم بسير حياة المؤلفين ونوادرهم، وأنّ هذا الأستاذ كلفه بكتابة بحث عن منهجية البحث الأدبي عند مؤرخ الأدب العربي الدكتور شوقي ضيف، فما كان من صديقنا إلا أن قام برصف البحث بكل ما يخص حياة الكاتب. 

وبالفعل، لقد اندمج الأستاذ وأخذ يعلّق على التفاصيل ويضيف من عنده أحيانًا، وبعد اقتراب وقت عرض البحث على الانتهاء، تذكر الأستاذ أنه لم يتم التطرق للمنهجية، فطلب من الطالب أن يتحدث بعجالة عن ذلك. فما كان من صديقنا إلا أن رفع صوته بعربية فصيحة "وماذا يمكن أن يعلّق الباحث على عمل شيخ جليل مثل شوقي ضيف؟"، ثم استدرك بلهجته البدوية: "والله يا دكتور ما عليه زود".