18-أغسطس-2015

لم يعد بإمكان الظروف الصعبة أن تثنيه عن استمرار حياته (Getty)

لا تتسع المخيلة للبدايات فهي كثيرة، ولكن مضمون المعاناة واحد، الفقر ذلك القبر المتحرك، ساق محمد ابن الـ12 ربيعًا مع قريبه إلى لبنان، فحال عائلته المكونة من أمه وأخته الصغيرة وأبيه، الذي لم يجد عملًا في مدينة الحسكة السورية، يزداد سوءًا، ومع تضارب الأنباء في مطلع العام 2011 عن نشوب ثورة في سوريا، وافقت أمه على إرساله إلى لبنان لتحافظ عليه كما كانت تفكر.

هاجر العصفور من الحسكة إلى لبنان بحثًا عن الدفء والطعام 

جاء محمد مع ابن عمه إلى بيروت، ليلبث قرابة شهر دون عمل، إلى أن وجد له ابن عمه عملًا في مغسل سيارات تحت إحدى البنايات في منطقة الروشة، بدأ العمل هناك، وكانت صنعته في بداية الأمر أن يضع الملمع على "دواليب" السيارات ويشطف الماء عن أرضية المغسل، مرت الأيام وبدأ يجيد غسيل السيارات ولقبه عمال المغسل بـ"عصفور" نسبة لنشاطه، لأنه كان يركض طيلة 13ساعة عمل بتواصل والضحكة لا تفارقه.

بدأ عصفور بالخروج من ذالك القبو، وكانت المرة الأولى التي يخرج فيها بعد حوالي شهرين، حيث ذهب مع ابن عمه ليشتري ثيابًا من منطقة صبرا. وبدأ يجيد التكلم باللكنة اللبنانية المائلة إلى لهجته الأصلية، وزادت هذه من "هضامته" فهو طيلة الوقت يضحك ويمزح مع عمال المغسل ويتحمل الإهانة منهم ومن الزبائن وصاحب المغسل بابتسامته. وفي يوم جاء عصفور إلى صاحب المغسل وطلب منه أن يعطيه كامل حسابه منذ 4 شهور إلى ذلك الوقت، وقد كان لا يعرف كم سيكون راتبه، فقال له صاحب المغسل بأن راتبه 200 ألف ليرة لبنانية، وأعطاه الـ800 ألف، مجموع الشهور الـ4 التي مضت. يقول عصفور "كنت طاير من الفرحة، ورحت دغري صرفت المصاري من العملة اللبنانية للسورية وحولت المبلغ لأهلي واتصلت بأهلي للمرة الأولى حكيت مع أبوي ومع أمي، وأمي صارت تبكي، ومن بعدها ضلو عندي 200 ألف رحت اشتريت "تلفون" سامسونغ، وانبسطت فيه قد الدنيا، إنو بعثت لأهلي مصاري وصار عندي تلفون، ومن بعدها صرت كل شهر أو شهرين أبعث مصاري لأهلي".

وبعد مرور 4 أعوام على مجيئه إلى بيروت، تحسن وضعه بين عمال المغسل وصار يعرف جميع الزبائن والكل يحبه، لكن الحال تغير بعد أن فقدت إحدى السيدات هاتفها، واتصلت بصاحب المغسل وأخبرته بالأمر، ولسوء الحظ ألقوا التهمة على عصفور، جاء صاحب المغسل واجتمع حوله العمال ونادوا عصفور ثم بدأ يصرخ في وجهه ويلقي عليه التهم. يقول عصفور "حاولت أن أنكر وحلفت لهم وأنا أبكي ولكن بلا جدوى لم يصدقني أحد، فطردني صاحب المغسل وأخذ ثمن الهاتف من حسابي لديه، وقد كان ذالك اليوم أسوأ أيام حياتي".

بعدها ذهب عصفور إلى ابن عمه وشرح له الموضوع ولكنه لم يستطع أن يفعل له شيئًا، مكث عند ابن عمه 3 أيام وإذ بصاحب المغسل يتصل بابن عمه ويطلب منه أن يأتي ومعه عصفور، وحين وصلوا إلى مكان العمل، جاء إليه صاحب المغسل وقال له لقد ظلمناك لأن السيدة أخبرتنا أنها لم تفقد هاتفها هنا بل وجدته ضائعًا في بيتها.

يقول عصفور "ما فرحت كتير إنو رجعني لأنو بعد هالحادثة كرهت لبنان والمغسل وكرهت كلشي". عاد إلى عمله مجددًا ولكن ليس كما كان في السابق، فذلك القبو تحت الأرض صار قبرًا بالنسبة له، استمر في العمل حوالي أسبوع وجاء إلى صاحب المغسل ليقول له إنه لم يعد راغبًا في العمل لديه، وحين سأله عن السبب قال له "بيكفي عايش تحت الأرض بدي روح شوف وجه الله".

ترك العمل هناك وخرج يبحث عن عمل جديد، يقول "وجدت عملًا في منطقة عرمون في مطعم ومقهى، وأنا مرتاح أكثر بكثير من عملي السابق"، ويختتم كلامه وهو يبتسم "شفت الله بالألوان بهالمغسل، خليها على ربك".

واليوم لم يعد بإمكان الظروف الصعبة أن تثنيه عن استمرار حياته وضحكته، فلقد هاجر العصفور من الحسكة إلى لبنان بحثًا عن الدفئ والطعام، نزل تحت الأرض طفل بسنواته القليلة وخرج شابًّا ثويًّا يستطيع أن يقرر ويتحمل كامل مسؤوليته ومسؤولية عائلته القابعة تحت نيران الحرب وجور الفقر، فطوبى للعصافير يا محمد.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الطريق إلى الوطن (1).. حكايا سوريين ضاقت بهم بلاد اللجوء!

الطريق إلى الوطن (2).. حكايا سوريين ضاقت بهم بلاد اللجوء!