08-فبراير-2020

رئيس جامعة القاهرة (يمين) وشيخ الأزهر (صحف مصرية - الترا صوت)

في الآونة الأخيرة تجدد الجدل حول التراث الإسلامي والخطاب الديني، بعد أخذ ورد بين شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب ورئيس جامعة القاهرة محمد الخشت، خلال إحدى جلسات مؤتمر تجديد الفكر الإسلامي الذي عقد في القاهرة قبل أكثر من أسبوع.

حمّل رئيس جامعة القاهرة الأوّلين ذنب حركة التاريخ ونهب استعمار الشمال مقدرات الجنوب ماديًا ومعنويًا مستلهمًا مفردات قاموس جلد الذات

بدا أن السيد الخشت، أستاذ الفلسفة، قد جهز مسبقًا الكرسي الذي سيرميه في الكلوب، بحديثه عن "تجاوز" التراث، وزعمه بأن الأشاعرة يستندون في تمذهبهم العقائدي على أحاديث الآحاد، وبتلاوته الخاطئة لغةً لآية قرآنية.

اقرأ/ي أيضًا: إعادة الاعتبار للغضب في فهم الإرهاب

وعلى ما يبدو، كان الدكتور الخشت يظن أنّ أحدًا من الحضور لن يُعلّق سوى بالتصفيق والإيجاب على خطابه. وكان ظنه في غير محلّه، بما لم يعِه مسبقًا، فقال مفاخرًا: "إن كنت على خطأ فصوبوني"، فصوّبه شيخ الأزهر، فحزّت في نفس الدكتور الخشت، الذي لوّح وغضب وأصرّ على الرد وقوفًا على منصة الخطابة، مستخدمًا دزينة من التعبيرات العلموية، التي بدا لجمهرة من المتابعين أنها غير ذات معنى في سياق الموقف.

قصة مثيرة لمشهد غريب من بروفيسور ورئيس جامعة كبرى، ذهب متحمّسًا، وعاد مقموصًا من "حرية الفكر والتعبير والرد والتأويل"، بسيْل من المقالات والظهورات الإعلامية ليبرر موقفه، ويكشف "المؤامرة" التي حيكت ضده داخل القاعة المعممة.

وكان رد شيخ الأزهر، وأستاذ العقيدة والفلسفة، أحمد الطيب، يستند أوّلًا إلى رد الأخطاء المعلوماتية في خطاب السيد الخشت، وثانيًا، وهو أمر دأب شيخ الأزهر على تكراره، وهو عدم الإنجرار طواعية إلى خانة المتهم بالعقيدة والدين، في حين أن الأمر مرده على الحقيقة والواقع، سياسة واجتماع، ولا علاقة للأمر بالدين ولا بالتراث ولا يحزنون.

انسحاق ثقافي

في اعتقادي تكمن أهمية هذه الإشارة المتكررة من شيخ الأزهر، في دفعها بالتفكير النقدي إلى ما بعد حدود سيطرة الخطاب السائد، الانتحاري جدًا، والذي من سماته البارزة، وللأسف، كل ما فعله السيد رئيس جامعة القاهرة، بأن حمّل الأوّلين ليس ذنب الآخرِين، وإنما في الحقيقة ذنب حركة التاريخ، ونهب استعمار الشمال مقدرات الجنوب ماديًا ومعنويًا، ثم بأن استلهم كل مفردات قاموس العلموية، وجلد الذات، والانسحاق أمام الشروط غير الموضوعية أبدًا لـ"التنمية" حينًا و"مكافحة الإرهاب والتطرف" أحيانًا، وكلها أدوات تقليدية لاستمرار طمس الخصوصية مكانيًا وزمانيًا.

وبالجملة، فإن كل ما قيل حول "تجديد الخطاب الديني" هو في باب هذا الهراء، رغم ظني بحسن نوايا بعض من نادوا به، مع تيقني بقلة علمهم وسوء تقديرهم. وربما كان أجدر، بدلًا من معايبة أهل التخصص في تخصصهم دون تخصص، بما قد يبدي أحيانًا جهلًا حيثيًّا؛ طرح الأسئلة الصحيحة، مثل: لماذا كان الأوروبيون البيض أشهر أدوات القتل لدى داعش؟ لماذا تحولت البريطانية سالي جونز من مغنية إلى "أم حسين"، هاجرةً غناء الروك في سبيل "قطع رقاب الكفار"؟ لماذا قام شاب أسترالي، أبيض حتى النخاع، بقتل 50 شخصًا برصاص أربع أسلحة آلية، حين كانوا يؤدون صلاتهم في مسجد بنيوزلندا؟ ولماذا عمومًا تصاعدت عمليات الاعتداء على كل من هو غير أبيض في دول البيض بأيدي البيض؟ وأخيرًا، لماذا يَلقى ما يُسمى باليمين واليمين المتطرف قبولًا كبيرًا لدى الناخبين والمصوتين في أوروبا والولايات المتحدة؟

سفاح نيوزلندا
برينتون تارانت، سفاح نيوزلندا

أسئلة كهذه، مجردة عن الأوهام العلموية والانسحاق الثقافي، قد تفضي إلى أجوبة أقرب للصحة، تتجاوز بخفة، الكلام الفارغ، إلى تلمس مكامن الانهيار في نظام يولّد نفسه مجددًا كل مرة، بصور متعددة وحقيقة واحدة، دون أن يكون لنا، نحن أبناء الجنوب والهامش، أكثر المتضررين منه، دورٌ في رفض القبول به فضلًا عن تغذيته. 

إعادة الاعتبار للغضب

كانت أزمة 2008 العالمية، علامة كبرى على انهيار مفاصل إمبريالية الرأسمالية المالية وتداعياتها اجتماعيًا وثقافيًا، قبل أن يحاول عرّابوها توليدها مجددًا، لكن يبدو أن الغضب تملّك العالم جنوبًا وشمالًا، متضافرًا مع تطور تاريخي حتمي، أفقد دعائم الخطاب المهيمن القدرة على السيطرة الكاملة أو الكامنة.

وتجلى الغضب في صور عدة: انتفاضات شعبية مستمرة، ونزوع نحو الراديكاليين يمينًا ويسارًا، وقتلٌ هو في حقيقة واقعه ليس على الهوية، وإنما، إذا أردنا إنصاف أنفسنا لحظة، هو على الغضب من النهب والاستيلاب المستمر والمتوالد.

 يبدو أن الغضب تملّك العالم جنوبًا وشمالًا متضافرًا مع تطور تاريخي حتمي أفقد دعائم الخطاب المهيمن القدرة على السيطرة الكاملة أو الكامنة

وفي مساعيه لإعادة إنتاج نفسه في حدود السيطرة الممكنة، نتلهى نحن الشعوب من كل الألوان بتوجيه غضبنا نحو أنفسنا، فمرة نصلب أنفسنا بالذنب وجلد الذات، ومرة نقتل ونعتدي سودًا وبيضًا ضد بعضنا، وفي كل مرة، لكل ممارسة تعبّر عن غضب متراكم، ثمة تسميةُ ضبطٍ وحصر: "تجديد الخطاب الديني" أو "إرهاب" أو "تطرف" و"يمين" و"يسار"، دون أن يكون للغة أي حق في ضبط المصطلحات المطلقة على عواهنها، فالمعرفة مُحتكرة، ونحن ابتلعنا الطعم. هل أصبح واضحًا الآن لماذا نكرر مقولة: "الأصل في كل عماء وبلاء، اختلاط الأسماء"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتحار في ما تُسمى خطأً بـ"صفقة القرن"

حوار| فيصل دراج: المثقف قائم في النقد