05-ديسمبر-2019

من الانتفاضة اللبنانية (رويترز)

إعداد: أحمد عابدين وأحمد خواجة

منذ اندلاع الانتفاضة في لبنان في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وثمة حالة ارتباك عام بين جميع الفرقاء السياسيين، إلا أن نظرة وطريقة تعامل كل منهم تختلف باختلاف كون هذا الحراك خطرًا عليه، أو فرصة له، أو بين هذا وذاك.

لم يعد الخطاب "التطهري" للتيار الوطني الحر، مجديًا مع القسم الأكبر من اللبنانين، ما انعكس في الانتقادات التي وجها المنتفضون للتيار

التيار الوطني الحر.. ازدواجية الشيطة والسرقة

قبل وصول ميشال عون إلى كرسي رئاسة الجمهورية في العام 2016، كان التيار الوطني الحر يتقن تنفيذ لعبة المولاة والمعارضة في نفس الوقت. فالتيار الذي يشارك بوزارات أساسية منذ عام 2009، كالكهرباء والاتصالات والعدل، لطالما كرر الحديث عن عمله من أجل "الإصلاح من الداخل"، متهمًا الآخرين بإعاقة مساعيه، منزهًا نفسه عن الفساد.

اقرأ/ي أيضًا: الثنائي الشيعي في واقع الانتفاضة اللبنانية

غير أن هذا الخطاب "التطهري" لم يعد مجديًا مع القسم الأكبر من اللبنانيين بعد وصول عون إلى قصر بعبدا، وحصول التيار على الحصة الأكبر في حكومة سعد الحريري الأخيرة.

عمل التيار الوطني الحر منذ اليوم الأول للانتفاضة على الاستثمار بها، من خلال القول بأن مطالب المحتجين هي بالأساس مطالب التيار، وأن التيار هو أول من طالب بفتح ملفات الفساد ومحاسبة الفاسدين.

وعلى هذا، عمل نواب التيار ووزرائه في كل مقابلاتهم وتصريحاتهم الإعلامية، على تحميل الطبقة السياسية التي حكمت منذ 1992، مسؤولية ما آلت إليه البلاد، وبالتالي تبرئة التيار من الموبقات، على اعتبار قِصر مدة تجربته في الحكم، وعدم امتلاكه الأدوات الكافية لحل المشاكل، بحسب ادعائه.

رغم تلك الادعاءات، وجه المنتفضون الذين رفعوا شعار "كلن يعني كلن"، انتقادات لاذعة للتيار الوطني منذ اليوم الأول، محملينه جزءًا كبيرًا من مسؤولية الأوضاع المتردية. وطالت الهتافات بشكل خاص وزير الخارجية جبران باسيل.

جبران باسيل وميشال عون

حاول العونيون القيام بردة فعل، من خلال تنظيم مظاهرة إلى بعبدا ولقاء رئيس الجمهورية الذي ألقى خطابًا أمام الحشد الهزيل، رغم التجييش الكبير. وفي المقابل، نظم المنتفضون تظاهرات كبيرة، خاصة في المناطق ذات الأغلبية المسيحية، في رسالة تفيد نزع الشرعية التمثيلية عن التيار، كأقوى الأحزاب المسيحية.

وفي الوقت الذي كان رئيس الجمهورية، ميشال عون، يقول إنه يتبنى مطالب الجماهير، كان نواب التيار ووزرائه والحاشية الإعلامية لعون، يشنون حملة تخوين للانتفاضة، لم تخلُ من الفبركات والأخبار الكاذبة، فمثلًا سخر النائب زياد أسود من المتظاهرين، واعتبر أن الانتفاضة لن تدوم أكثر من يومين، فيما قيل إن جبران باسيل قال لسعد الحريري إن المتظاهرين "شلعوطين ولن يستمروا طويلًا".

وتولى تلفزيون "otv" مهمة نشر الأخبار المفبركة، بينما كان الفنانون المقربون من التيار، مثل شربل خليل وسمير صفير وغيرهما، يطلقون أقذع الأوصاف على المتظاهرين، في محاولة للشيطنة وترهيب المجتمع من المنتفضين.

الحزب التقدمي الاشتركي.. ضبابية الانتهاز

اتسم موقف الحزب التقدمي الاشتراكي من الانتفاضة، بالضبابية، الأمر الذي يعكس سياسة طويلة المدى للحزب، تكررت في العديد من الأحداث والمواقف البارزة في البلاد.

وقبل أيام من الانتفاضة اللبنانية، نظم أنصار الحزب التقدمي الاشتراكي مظاهرة ضد العهد، رغم أن الحزب مشاركٌ في الحكومة. ومنذ اليوم الأول للانتفاضة، أعلن زعيم الحزب، وليد جنبلاط، دعمه للانتفاضة، بل شارك عدد من أتباع الحزب وأنصاره مع المتظاهرين في الساحات، إلا أن الحزب لم يقدم على الاستقالة من الحكومة، وفي المقابل ربط تقديم الاستقالة، باستقالة سعد الحريري نفسه.

ومن جهة أخرى، استخدم وزير التربية التابع للحزب الاشتراكي، أكرم شهيب؛ ورقة تعطيل المدارس والجامعات لتصفية حسابات مع التيار الوطني وحزب الله، الأمر الذي استفادت منه الانتفاضة.

وليد جنبلاط

مع ذلك، أصر المنتفضون على "كلن يعني كلن"، فكانت صور جنبلاط في طليعة الصور التي حملها المنتفضون للوجوه التي طالبوا بمحاسبتها كـ"رموز للفساد"، إذ يتهمونه بأنه جزء من "الترويكا" التي وضعت يدها على مقدرات البلد منذ 1992.

الضبابية التي يتخللها انتهاز للفرصة كما في موقف وزير التربية وقرار إيقاف المدارس والجامعات؛ ظهرت كذلك في موقف الحزب من تشكيلة الحكومة الجديدة، إذ لم يتخذ الحزب أي قرار واضح بشأن المشاركة من عدمها، ما يؤكد انطباعات المراقبين حول سياسة "ضبابية الانتهاز" التي ينتهجها الحزب.

تيار المستقبل.. هل تكون الانتفاضة طوق نجاة؟

كانت الانتخابات البرلمانية السابقة ضربة قاسمة لتيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري، بخسارته ثُلث مقاعد البرلمان، وتقلص نصيبه من 33 مقعدًا في انتخابات 2009 إلى 21 فقط في الانتخابات الأخيرة، ما أثر بطبيعة الحال على قوته ونفوذه داخل المجلس الوزاري، وأخرج حكومة متعسرة، خسر فيها أيضًا مقعدًا وزاريًا. يدفع ذلك للاعتقاد لدى قطاع كبير، بأن الانتفاضة مثلت للحريري فرصة لتعويض خساراته السابقة.

بدأ الأمر بمحاولة الحريري تقديم نفسه كأحد المؤمنين بالانتفاضة ومطالبها، فتفاعل سريعًا مع الشرارات الأولى للانتفاضة بورقة الإصلاحات. لكن الورقة فشلت في تهدئة الشارع، فقرر الحريري القفز من المركب بما حمل.

سعد الحريري

بعد فشل ورقة الحريري وتيقنه بأنه بعيد تمامًا عن مطالب الناس وطموحاتهم، اتخذ خطوة أكثر جرأة، بالقفز من مركب السلطة المتهاوي، والتخلي عن شركائه من المجموعة الحاكمة الذين حاولوا جاهدين إثنائه عن الاستقالة، لكنه استقال في النهاية.

وبالاستقالة التي قال إنها "تنفيذ لمطالب المواطنين"، أراد الحريري على ما يبدو، الضغط على العهد، بما يتيح له تشكيل الحكومة منفردًا، دون شركاء سياسيين، تحت مسمى "التكنوقراط"، الأمر الذي لم يقبل به حزب الله، وغيره من أركان النظام.

وبعد أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدودة، بدأت جولة حرق الأسماء البديلة واحدة تلو الأخرى، بدايةً من محمد الصفدي ثم بهيج طبارة وأخيرًا سمير الخطيب، ما وضع النظام أمام فراغ، وتحت مزيد من الضغط، في ظل استمرار الانتفاضة، وتكرار الاشتباكات، التي حملت الجيش فوق ما يحتمل شعبيًا، وتأزم الوضع الاقتصادي. ثم خرج الحريري ببيان وعدة تغريدات على تويتر، برأ فيه نفسه. 

القوات اللبنانية.. على طبق من فضة

أما حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، فقد جاءت الانتفاضة اللبنانية له على طبق من فضة. فالحزب الذي كان أكبر الرابحين في الانتخابات البرلمانية السابقة، بأن ضاعف عدد مقاعده من ثمانية مقاعد إلى 16 مقعد، أهلته للحصول على أربعة حقائب وزارية؛ يحاول زيادة شعبيته بين الطائفة المسيحية، في مسعى لاحتلال مركز التيار الوطني الحر، وذلك بأن كان أول القافزين من مركب حكومة الحريري.

سمير جعجع

أبدى حزب القوات اندماجًا مع الانتفاضة ومطالبها، الأمر الذي أرجعه محللون إلى خطة الحزب لإضعاف قوة وشعبية التيار الوطني الحر، رغم أن حزب القوات نفسه كان مشاركًا ضمن المجموعة الحاكمة التي انتفض عليها اللبنانيون.

ويرى مراقبون أن الهدف الأبرز للقوات اللبنانية وسمير جعجع، خو إضعاف التيار الوطني، دون المساس بمقعد رئاسة الجمهورية، رغم طموح جعجع في الوصول للرئاسة، غير أنه يخشى أن يصبح عزل الرئيس عُرفًا مقبولًا، في حال وصل هو للرئاسة اللبنانية.

الثنائي الشيعي

في حين بدا أن حزب الله أكثر تماسكًا في شارع أنصاره ومؤيديه، استغلالًا لخطاب "الممانعة"، اتسم موقف حركة أمل بالتخبط، خاصة في ظل الاتهامات المتزايدة من الشارع اللبناني المنتفض لزعيم الحركة نبيل بري، وزوجته رندة بري، بالتورط في الفساد.

وفي حين حرص زعيم حزب الله، حسن نصر الله، على الظهور عدة مرات منذ انطلاق الانتفاضة، توارى بري عن الأنظار، مكتفيًا ببيان مقتضب للحركة ضمن محاولات ركوب موجة الانتفاضة، قالت فيه الحركة إن موقفها "ثابت وصريح بالممارسة والانحياز لمطالب الناس".

وبينما اعتدى أعضاء في حركة أمل على المتظاهرين بالضرب وإطلاق النيران، كان بري يؤكد على أنه "مع الحراك المدني الحقيقي"، مطلقًا ما أسماها "ثورة تشريعية لمكافحة الفساد" انطلاقًا من كونه رئيسًا للبرلمان. 

يعكس هذا تخبط الحركة من جهة، ومحاولات بري من جهة أخرى استباق أي جهود لتشكيل حكومة تكنوقراط، لا يبدو أنها ستكون في صالح أمل، خاصة مع السيطرة المستمرة للحركة على وزارة المالية في الحكومات الثلاثة الأخيرة، وبسبب الخلافات السياسية حول الموازنة.

يُذكر أن وزير المالية، علي حسن خليل، قد صرح بأن هناك من يعرقل جهوده في الوزارة، ليخلي مسؤوليته عن فرض الضرائب على اللبنانيين في موازنة 2019.

نبيه بري وحسن نصر الله

من جهة أخرى، وصف متابعون تفاعل حزب الله مع الانتفاضة بـ"الفوقية"، الأمر الذي قد تبينه خطابات حسن نصر الله التي بدا واضحًا فيها الحس الوعظي من جهة، والتحذيري من جهة أخرى من الوقوع في فخاخ الحرب الأهلية.

كما لم يتوان حسن نصر الله عن الهجوم على المتنفضين، خاصة عندما اتهمهم بتحقيق أجندات ممولين أجانب، خاصة وأن شعار "كلن يعني كلن" الذي رفعه المتظاهرون في الساحات، لم يستثن نصر الله.

وبخروج التظاهرات في مناطق النفوذ الشيعي، شعر حزب الله بالتهديد في شعبيته، فمارس الضغوط المتفاوتة في مناطق نفوذه والمناطق ذات الأغلبية الشيعية، لحمل مجتمعها على نفض يده عن الانتفاضة تحت مبررات "المقاومة" و"الممانعة" وما إلى ذلك.

ويعمل حزب الله جاهدًا على قلب تعاطف الناس مع الانتفاضة للضد، من خلال حملات التشويه بوسائل الإعلام وفي الشارع، وبالتهديد عبر السيارات المنتشرة والتي تجوب شوارع الضاحية الجنوبية لمنع خروج المظاهرات.

ويبدو أن أكثر ما يقلق حزب الله من الانتفاضة أولًا دخوله بين المنتفض عليهم في زمرة "كلن يعني كلن"، وثانيًا خسارة المكتسبات التي استطاع تحقيقها على مستوى السلطة في لبنان.

"مقاومة" الحزب الشيوعي والتنظيم الناصري

في المقابل، ومن داخل خندق "الممانعة" برز الحزب الشيوعي اللبناني والتنظيم الشعبي الناصري، كأبرز الأحزاب السياسية اللبنانية ذات الموقف المؤيد للانتفاضة اللبنانية، بالخروج من عباءة "زعيم الممانعة" لبنانيًا، حزب الله.

من جهته شارك الأمين العام للتنظيم الشعبي الناصري، أسامة سعد، في مظاهرات الانتفاضة بمدينة صيدا، واصفًا الانتفاضة بـ"المقاومة الشعبية". وشدد سعد في تصريحات صحفية على ضرورة أن تدرك المجموعة الحاكمة أنه قد "حان وقت انتقال السلطة".

في الوقت نفسه أبدى الحزب الشيوعي اللبناني وأمينه العام حنا غريب، تأييدًا كاملًا للانتفاضة، منددًا بما وصفه بـ"القمع والترهيب" للمنتفضين الذي تمارسه أحزاب السلطة السياسية.

خرج الحزب الشيوعي والتنظيم الناصري من عباءة "ممانعة" حزب الله، بتأييدهما الكامل للانتفاضة انطلاقًا من مفهوم "المقاومة الداخلية"

ويطرح الحزب الشيوعي والتنظيم الناصري مفهوم "المقاومة" مقابلًا لـ"الممانعة" الذي أخذ سمعة سيئة في السنوات الأخيرة، على خلفية موقف تيارات وأحزاب الممانعة من مطالب الشعوب في انتفاضاتها؛ أساس هذا المفهوم، أي المقاومة هو "التحرير يستلزم التغيير".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"مقاومة" الناصري والشيوعي في وجه "ممانعة" حزب الله

الثنائي الشيعي وتحالف "الطائفة فوق الوطن"