04-ديسمبر-2019

تحدث محاولة انتحار كل 6 ست ساعات في لبنان (ويكيبيديا)

أوردت وكالات الأنباء في لبنان: "انتحر المواطن ناجي الفليطي، في بلدة عرسال، بسبب ظروف مادية خانقة..."، وبقية الخبر ليست مهمة، ليس دائمًا. قد تكتسب أهمية إضافية، عندما نعرف أن الرجل انتحر لأنه لم يستطع أن يشتري "منقوشة" لابنته، ولأنه مدين مبلغ بسيط.

سجلت الإحصاءات الرسمية 1393 حالة انتحار في لبنان بين 2009 و2018، بمعدل حالة انتحار كل ثلاثة أيام

هذه أشياء تحدث في العالم، والقسوة بأي حال، جزء من هذا العالم. تجارة الأمل ليست تجارة أخلاقية دائمًا، وعندما ينتحر المنتحرون، يجب أن يكون مفهومًا أن هذه أشياء تحدث. إنها أشياء مرفوضة في أعراف المجتمعات المحافظة والمتدينة، لكنها تحدث.

اقرأ/ي أيضًا: الانتحار في لبنان.. "رغبة" التوقف عن العيش تنافس المعدلات العالمية

اللافت في لبنان، ليس انتحار الفقراء أو اليائسين من سوء الأحوال الاقتصادية بحد ذاته، اللافت هو نسبة الانتحار المرتفعة، في بلد يحاول طوال الوقت، في إعلامه، وفي أدبيات مواطنيه، تقديم صورة زاهية وملونة عن نفسه.

ناجي الفليطي ليس الأول.. ولا الأخير

الرقم كبير، وفقًا لإحصاءات قوى الأمن الداخلي، التي سُجّلت 1393 حالة انتحار في لبنان بين 2009 و2018، أي في أقل من 10 سنوات. أي أن هناك حالة انتحار في بلد الموضة والحياة الجميلة، خلال أقل من ثلاث أيام كمعدل.

حتى أن اللبنانيين عمومًا يعترفون بالأديان، وإن كنا لا نملك إحصاءات واضحة لنسبة التدين في لبنان، إلا أنه يمكننا الحديث عن وجود نسبة عالية من المتدينين. رغم ذلك، كل ست ساعات فقط، تحدث محاولة انتحار، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه خمسة ملايين نسمة. الرقم كبير، وناجي الفليطي ليس الأول، ولن يكون الأخير. الجميع يتذكر جورج زريق، الذي أشعل نفسه قبل عام، في باحة المدرسة، لأنه لم يتمكن من دفع الأقساط.

الفارق بين الرجلين ليس كبيرًا. الأول ألهم انتفاضة اللبنانيين، والثاني انتحر خلال الانتفاضة، كأنه يذكّر اللبنانيين بضرورة الاستمرار وعدم التوقف.

غير أنه وفق الحسابات "اللبنانوية" الضيقة، هناك فوارق. فالفليطي من عرسال، وزريق من الكورة. الأول من الريف الشرقي المحاذي لسوريا، والثاني من أول الشمال، ومركزه مدينة طرابلس. لكن جاءت الانتفاضة لتذكّر اللبنانيين أن أسباب موتهم واحدة، وأن السكوت، أو الركود، سيؤدي إلى أشكال مختلفة من الانتحار. السكوت ليس مجرد سكوت، بل هو انتحار أيضًا، أو تمرين على الانتحار، وعلى مشاهدة الآخرين، وهم ينطفئون.

السؤال الدوركايمي: لماذا ينتحرون؟

عندما نقول انتحار فإن أول شخص يخطر في البال هو إميل دوركايم. لا يعني هذا أن نظريات عالم الاجتماع الفرنسي مقدّسة، لكن العودة إليها، عند الحديث عن الانتحار، تحدث مثل كبسة زر، موجودة في مكانٍ ما برأس المُنتحِر، يمدّ اصبعه باتجاهها في لحظة القرار، ويضغط لمرة واحدة وأخيرة.

سيكون ترداد الأسباب الاقتصادية أو النفسية أمرًا اطلاقيًا، حتى وإن كانت المؤشرات الأكثر دلالة تنبع من هذين المحلين. في الحالة اللبنانية، يبدو السؤال الدوركايمي منطقيًا: لماذا ينتحر الأشخاص؟

لا يكفي أن يكون الفقر سببًا، وإلا كان جميع الفقراء انتحروا. لكن، كان دوركايم، بالذات، يريد معرفة أسباب التفاوت في معدلات الانتحار، ولماذا يحدث في مجموعات محددة، منطلقًا من افتراض وجود عوامل سيكولوجية وسوسيولوجية متشابهة بين المجموعات، إضافة إلى العوامل البيولوجية المشتركة بين الناس.

لاحظ دوركايم أن هذا التفاوت سببه التفاوت في الظروف الاجتماعية، أو ما يسميه بالتيّارات داخل المجتمع. وهذه التيارات لا يمكن اختزالها بالحديث عن أزمة اقتصادية دائمًا. قد يكون الاقتصاد عاملًا محفزًا للتيار، لكن قد يكون هناك شعور عارم بالضيق والاختناق. أحيانًا يكون الانتحار محاولة رفض على قيود غير معلنة.

الانتحار في الإعلام اللبناني

أما الطريقة التي تتناول فيها وسائل الإعلام اللبنانية أخبار الانتحار، فتبدو كمساهمة في أحداث الانتحار نفسها. عينات كثيرة تحتاج إلى التحليل:

  • أفادت المعلومات عن انتحار المواطن ي.أ.ج. (مواليد 1963)، لأسباب مادية. وحدث ذلك في الضاحية الجنوبية لبيروت، في منطقة حي السلم - الموقف، إلى جانب معمل الكنفاني. وهو صاحب محل ألومنيوم.
  • أقدم المدعو م. ن. (39 عامًا) من بلدة عيتنيت في البقاع الغربي، اليوم صباحًا، على القاء نفسه من الطابق الثالث، في بناية في برج الملوك، قضاء مرجعيون، جنوب لبنان. وقد نقل الصليب الاحمر اللبناني الجثة الى مستشفى مرجعيون الحكومي. ويقوم مخفر مرجعيون بالتحقيق بالحادث.
  •  أطلق التلميذ عباس ي. النار على رأسه، من مسدس حربي، وذلك إثر اعلان نتائج الامتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة، وتبيان رسوبه. وقد تدهورت حالته الصحية، ويقبع بين الحياة والموت، في مستشفى "دار الأمل"، شرق لبنان. وقد ناشدت إدارة المستشفى من أجل ​التبرع بالدم​ من فئة "0-". يذكر ان ​وزارة التربية​ اصدرت نتائج البريفيه بعد منتصف ليل أمس.
  • أدخل الى مستشفى عين وزين – بعقلين، جبل لبنان، المدعو ه. ن. (1992 - لبناني)، بحالةٍ طارئة، بعد تناوله كمية كبيرة من الأدوية المهدئة للأعصاب، داخل منزله في كفرنبرخ. وبنتيجة التحقيق صرّح أن الحادث قضاء وقدر، وأنه تناول الأدوية كونه شعر بوجع في رأسه.
  • أحضرت الى مستشفى بشري الحكومي بواسطة ذويها المدعوة ا. س. وهي سورية الجنسية، بعد تناولها كمية من اقراص بانادول بهدف الانتحار بسبب خلافات عائلية، وذلك في منزلها الكائن في بلدة بشري، شمال لبنان.
  • في بنت جبيل، جنوب لبنان، أحضرت الى المستشفى بحالة طارئة المدعوة إ. د. إثر تناولها كمية حبوب من دواء القلب، حيث أدخلت الى غرفة العناية الفائقة للمراقبة. أسباب الانتحار مجهولة.
  • أدخلت إلى مستشفى خوري العام في زحلة للمعالجة المدعوة ن. ن. وهي في حالة غيبوبة بعد تناولها مجموعة من الأدوية وذلك داخل منزلها الكائن في الكرك – زحلة، شرق لبنان.

تحليل هذه العينات، التي تعود إلى عام واحد فقط، يحتاج إلى أخصائيين. ما يمكن الحديث عنه، بالإضافة إلى حالتي زريق وفليطي، هو التنوع في هويات المنتحرين، على المستوى الجندري، وذلك على مستوى الجنسية، ومكان العيش الذي يتفاوت بين المدينة والضواحي والأرياف، وبطبيعة الحال ولأن لبنان بنظر حكامه بلد طائفي، فإن الانتحار عابر للطوائف أيضًا، مثل الفقر، ومثل القيود التي تحاصر المنتحرين

الحالة الطبقية للمنتحرين لا تظهر عادة في الأخبار التي تظهرها وسائل الإعلام، لكن يمكن الافتراض من معرفة المناطق، كحيّ السلم وعرسال وغيرها، أنها مناطق يعيش فيها فقراء.

لكن متابعة أخبار المنتحرين لم تعد مواد مهمة للصحفيين، وليس ذلك بسبب احترام الخصوصية والحق في تقرير المصير، إنما لأن هذه الحوادث صارت تتكرر كثيرًا، والإعلام يبحث عن "الرايتينغ"، وليس عن المعالجة. وقد يكون الإعلام بائسًا، لكن الفلسفة التي تحيل الأسباب في النهاية إلى الأنطولوجيا والوجود، ليست تفسيرًا يمكن تقديمه إلى الناس دائمًا.

يمكن عرض تنويعات الانتحار حسب دوركام، مثل: عدم قدرة المُنتحِر على الاندماج في وحدة اجتماعية واسعة، أو عندما يكون اندماجه أقوى من شخصيته، فيتخلى عنها بالانتحار.

أخبار المنتحرين لم تعد مهمة للصحفيين، ليس احترامًا للخصوصية، وإنما لأنها صارت كثيرة والإعلام يبحث عن المشاهدات وليس المعالجة

يحدث هذا عندما يكون هناك خلل في الاقتصاد أو في الأمن، أو عندما لا يكون ثمة أي خلل، ويصير العنف داخليًا، ويصير المجتمع نفسه هو الخلل. عندما يختنق الفرد بعنف، ويشعر بالقهر.  يمكن رصف النظريات، لكن الرقم في لبنان كبير جدًا. وحتى دوركايم نفسه، لن يستطيع تفسير كل هذا الحزن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نورهان حمود.. جدل تصاعد الانتحار في لبنان مجددًا

الشباب وتزايد حالات الانتحار.. نهايات صادمة لواقع معقد