05-أغسطس-2019

صادق كويش الفراجي/ العراق

الإيبغراف، أو ما قبل القول، هو اقتباس أدبي يضعه الكاتب قبل البدء بالفصل الأول من روايته أو كتابه أو حتى ديوانه الشعري، يختصر هذا الاقتباس المعنى العام للحكاية، وقد يتولى مهمة إعطاء القارئ إيحاءً بما سيطلع عليه.

يحمل الإيبغراف صور ذهنية تختصر حالات يريد الكاتب التحدث عنها، أو قد يكون عبارة عن بيت من الشعر لشعراء آخرين، أو عبارات من كتب مقدسة، أو اقتباسات أدبية من روايات وكتب أخرى، لا يتوقف الموضوع على شكل محدد وثابت، وقد يختفي هذا الاقتباس من بعض الكتب تمامًا، فمثلًا أغلب روايات وقصص الكاتب الروسي دوستويفسكي تغيب منها الاقتباسات، وروايات الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، كذلك بعض الكتب العلمية والأبحاث والدراسات.

يعتبر الكاتب الأمريكي هنري ميلر من أكثر من يُقتبس له وتوضع عباراته كمقدمة مختصرة أدبية لبداية كتب عديدة.

بعض الكتاب يبحثون في التراث الأدبي عن عباراتٍ تختصر الحكاية وتحيط بها، على الرغم من أن الاختصار ليس تمرينًا سهلًا على الإطلاق، بل يحتاج لقدرة كبيرة على الخلق والاختزال في ذات الوقت.

وقد تشكل تلك الاقتباسات عتبات أولية لفهم الحالة التي ستأخذنا إليه الرواية، أو تقدم لنا تخيل عمّا ينتظرنا في الصفحات التالية.

كيف يختصر الكتاب حكاياتهم في جمل وعبارات أدبية؟ هذا ما سنراه خلال مجموعة من الأمثلة المختلفة من عالم الأدب، بين رواية، ديوان شعري، كتاب نقدي وكتاب سيرة ذاتية.


1- مجمع الأسرار

رواية "مجمع الأسرار" للكاتب اللبناني إلياس خوري، واحدة من أهم الروايات العربية الحديثة، ومن أشهر روايات الكاتب بعد روايته "باب الشمس". يبدأ خوري حكاية مجمع الأسرار الذي يفتح على حكايات عديدة تبدأ كل مرة من حكاية سابقة. ينقل قولًا عن هارون الرشيد يقدم من خلاله صورة عن الخيال وعلاقته بالأدب، ويفسح لنا المجال بتنبأ تلك العلاقة بين خيال-واقع، أدب-حقيقة. "إن كنتَ رأيت ما ذكرت، فقد رأيتَ عجبًا، وإن كنتَ ما رأيته فقد وضعت أدبًا".

هذا القول المنسوب لهارون الرشيد في كلامه عن الشاعر ابن السري سهل بن خالد الخزرجي، كما هو مذكور في الطبعة الثانية من الرواية. لا يمكن أن نمر مرور الكرام أمام هذا الاقتباس الذي وضعه إلياس خوري، وكأنه تقصد إغراق القارئ بين فكرتين لهما ارتباط قوي مع حكاية الرواية ومع معاني تلك الحكاية، لماذا كتبت وما الغاية من روي هذا العجب الذي سنراه والأدب الذي سنلتقي به خلال رحلة قراءة رواية مجمع الأسرار. كذلك يعطينا هذا الاقتباس فرصة للتفكير في حكايات أخرى قرأناها وأعاجيب أخرى رأيناها في الواقع، عوضًا عن المسافة التي يتركنا غارقين فيها بين ما هو واقع وما هو خيال في عالم الأدب.

2- غرنيكا - بيروت

في كتاب "غيرنيكا-بيروت الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو ومدينة عربية في الحرب"، للكاتب والناقد اللبناني فواز طرابلسي، وُضع الاقتباس بداية الفصل الأول المسمى الفنان والحرب، وهو جزء من قصيدة "إسبانيا" للشاعر الإنكليزي ويستان هاغ أودن يعرف باللغة العربية بـ و.هـ أودن، أحد أهم شعراء القرن العشرين الذي شكّل شعره، إلى جانب قصائد الشاعر ت س إليوت، الوجه الشعري للقرن. عاصر و. هـ أودن الحروب والأزمات الكبرى التي طبعت القرن العشرين، أهمها الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأزمة المالية عام 1929، والحرب الأهلية الإسبانية. وكتب في تلك الأخيرة قصيدته التي أخذ منها طرابلسي الاقتباس لوضعه في كتابه النقدي الفني الذي يحكي حكاية الفنان الإسباني بابلو بيكاسو في الحرب الأهلية الإسبانية وأهم مفاصل حياته الفنية والشخصية بالعلاقة مع تلك الفترة التي عاشها في باريس، ويحلل طرابلسي العديد من أعماله ويظهر خصوصيتها الإسبانية، كما أنه يتطرق للفترة التي رسم فيها لوحته الشهيرة غيرنيكا، ويربط في الجزء الأخير من الكتاب بين التفاصيل الموجودة في اللوحة وتفاصيل أخرى حيّة ومجسدة في صور مأخوذة من مدينة بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

الاقتباس هو: "وما مشروعك؟ أن نبني المدينة الفاضلة؟ سوف أفعل. إني موافقة. أم تراه الشراكة الانتحارية، الموت الرومانسي؟ هيا! إني لها! لأني خيارك. لأني قرارك. إسبانيا أنا".

يربط الكتاب في علاقة مفترضة أقرب لكونها مقاربة بين فني ومادي، بين خيال فنان وواقع بشر، الرابط بينهم جميعًا أنهم تشاركوا تجربة العيش في الحرب، وشهدوا على المجازر. تبدو الحرب الأهلية كمصطلح بعد قراءة كتاب فواز طرابلسي والتعرف على مقاربته أشبه بتجربة عيش مشترك بين مكانين وزمانين من خلال أدوات الخيال والواقع ومن خلال عيون عاشت تجربة الحرب وتريد النظر إلى مدينتها بمنظورٍ فنيّ. يدفع الكتاب قارئه لتأمل المدن والضحايا والحروب ثم يقوده للتفكير في المدينة الفاضلة التي ستكون مشروعه هو أيضًا وسيدفعه إليها الموت الرومانسي، كما جاء في الاقتباس الذي افتتح به الكتاب.

3- لا تعتذر عما فعلت

ديوان الشعر "لا تعتذر عمّا فعلت" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، المنشور عام 2003، يبدأ باقتباس شعريّ أيضًا، على الرغم من أن الشعر وحده تكثيف صور إلّا أن الاقتباس الذي بدأ به الكتاب يحمل أفكارًا عمّا يحتويه الديوان. وضع له الشاعر عنوان سماه توارد خواطر، أو توارد مصائر: ويحوي الاقتباس أبيات شعريّة لأبي تمام والشاعر الإسباني لوركا. "لا أَنتِ أَنتِ ولا الديارُ ديارُ" (أبو تمام) والآن، "لا أَنا أَنا ولا البيتُ بيتي" (لوركا)

في ديوانه الشعري هذا يستمر الشاعر محمود درويش في رسم صوره الشعرية اللغوية عن شخصية الفلسطيني في التاريخ والحاضر، حيث أصبحت لهذه الشخصية في الديوان أبعادًا عامة وخاصة، تصير وطنًا يضيق بها وتتحول إلى بيت لم يعد لها، تذوب الذات الفردية في بوتقة الذات الجماعية. يختصر الاقتباس ومن وراءه قصائد كثيرة في الديوان جدلية الأنا والآخر، حيث يخاطب الشاعر نفسه وكل فلسطيني محاولًا رد العتب عن نفسه والدفع بعيدًا بوخز الضمير، فالأنا الشخصيّة الفرديّة صارت كُلّ يقدم تصور إجمالي، وهو واقع بمجمله تحت وطأة اضطهاد وسلبٍ أكبر منها. وهذا أيضًا ما يحيلنا الاقتباس للتفكير فيه، فبين الشاعر أبي تمام وقوله بصيغة المخاطب والشاعر الإسبانيّ لوركا وقوله بصيغة المتكلم، تتغير الشخصية الحاضرة في الضمير وتتغير الجغرافيا الحاضرة في الديار أو البيت، ولكن يبقى المعنى واحدًا، ويستمر درويش في بث الحياة في هذا التحول عبر ديوانه وكأنه تتمة لقصيدة أبي تمام ولوركا نفسيهما.

"لا تعتذر عمّا فعلت" فقد فعلتَ ما فعلت ولم يعد الأمر كما كان، وهذا ما يشكّل جوهر علاقة بين الأنا والآخر يحويها الاقتباس كما تحويها قصائد الديوان.

 

4- الكتب في حياتي

يبدأ كتاب السيرة الذاتية "الكتب في حياتي" للكاتب الأمريكي هنري ميلر بعدة اقتباسات أدبية عن فحوى الكتاب والذي يفضحه العنوان بشكل واضح، يمكن رؤيته أيضًا على أنه ما يشبه السيرة، على اعتبار أنه يأخذنا في رحلة إلى شخصية الكاتب عبر استعراض أهم الكتب والكتاب الذين تأثر بهم. الاقتباسات التي يبدأ بها الكتاب هي مقتطفات من بعض الكتاب مثل توما الأكويني الذي يقول وهو على فراش الموت "إن كتاباتي لا تبدو لي الآن أكثر من قش"، وتشكل اقتباسات أخرى تشغل قرابة صفحتين من صفحات الكتاب لاستعراض أقوال من كتب أدبية ورسائل تتحدث بشكلٍ عام عن الكتب والقراءة والكتابة وإلى وقع هذه المفردات الثلاثة وأثرها على النفس.

لا يتطرق ميلر من باب النقد ولا يدخل إلى عالم الكتب من باب التصنيف والحديث عنها، بل يتناول الكتب التي أثرت في حياته من منطق التجربة الحيوية وكأن كل الكتب تجربة إنسانية، فالكتب في حياة ميلر هي التي أسّست وأثرت حياته، لذلك يجب تلقيه وكأنه كتاب يرسم بتفاصيل منعطفات حياة ميلر نفسه.

ما يجدر ذكره أن عنوان هذا الكتاب كان ملهمًا لعنوان كتاب آخر يشبهه من حيث التكوين والفكرة هو كتاب المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو الذي سماه "أفلام حياتي". كما أن تروفو قد وضع اقتباسًا في بداية كتابه من كتاب ميلر يقول الاقتباس "كانت هذه الكتب حيّة وكلمتني"، وهي واحدة من الجمل المشهورة عند الحديث عن كتاب ميلر وتجربته. وكأن تلك الاقتباسات ومن ورائها الكتب صارت ملهمة لاقتباسات وكتب أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الوجه المظلم للاقتباسات

رواية "الكتب التي التهمت والدي" لأفونسو كروش.. سرد متعدد الطوابق