21-ديسمبر-2018

أعضاء مجلس الشيوخ الروماني يحاصرون يوليوس قيصر (لوحة لـ كارل فون بيلوتي)

تعيش المجتمعات، على اختلافاتها السياسية والعقائدية والثقافية، حالةً من التغيرات والتطورات الراديكالية التي تعمل على إفراز معطيات تساعد من خلالها على عملية الإشباع في المجالات الحياتية المختلفة، اقتصاديًا من خلال اللوجستيك أو الإمداد التكنولوجي والمالي، والبيداغوجي عير تطوير المضامين والمناهج التعليمية، والسياسية من خلال فتح آفاق المشاركة الديموقراطية الفعالة والتعبير السلطوي وهكذا داوليك.. لتصب في كامل الحقول المجتمعية، كما يسميها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو.

يعيش الفرد العربي حالة من التباعد الملموس بينه وبين إفرازات الدولة السياسية، والتي تثمتل في مؤسساتها الحكومية

كل هذا يعبر عن تشكّل واضح واستشراف حقيقي لحضارة قادمة في الأفق البعيد. إن الاختلافات بين الدول المتقدمة والنامية على ظاهرها بسيطة وتُحل عبر عملية التقليد والمحاكاة لتلك النمادج التي صنعت المجد في نظرهم، لكن الفكرة أعمق وأعقد من ذلك، فمسألة الإسقاط الحرفي لتلك النمادج باءت بالفشل في الكثير من الدول النامية، لأن هذه الدول ارتأت أن تقليص الفروق الزمنية وإغفال خصوصية هذه المجتمعات لصالحها، فعمدت إلى حرق وتيرة الأحدات فاحترقت هي الأخرى. المشروع التنموي التصنيعي في الجزائر بعد الاستقلال أصح مثال عن فشل المحاكاة.

اقرأ/ي أيضًا: "الدولة ضد الأمة".. خراب العالم العربي

من هنا برزت العديد من الإشكالات والعراقيل التي لا نزال نعاني منها كأفراد وكحكومات، محاولين جميعًا وضع إستراتيجية واضحة لفك رباطها وحل شفراتها... ولكن؟

في حقيقة الأمر، يصعب الحديث عن أمر في غاية التشابك من خلال قراءة بسيطة وتحليل نظري محض، إلا أنه هناك جانب مخفي في المسألة لا بد من تعريته وإبرازه للنور، وهو الجانب الفرداني الذي يرتبط كله بمشروع الحداثة وتنمية الفرد عبر كشف الحقائق التاريخية والأبعاد التنويرية لهذه العملية التي نراها بأنه سخيفة وتشدق سياسي عقيم، إلا أنها مسألة في غاية الجدية والأهمية للكثير من الاعتبارات التي نحاول من خلال هذه الورقة الكشف عنها.

في خضم هذه البنية شديدة التعقيد، نجد بأن الفرد العربي يعيش حالة من التباعد الملموس بينه وبين إفرازات الدولة السياسية، والتي تثمتل في مؤسساتها الحكومية، والجهات الرقابية، وأجهزتها النظامية، بكل ما تحمله هذه الأخيرة من خصائص ومميزات تدخل ضمن الكينونة العامة لحالة الدولة الآنية، هذه الجذرية الضمنية يعبر عنها الفرد بأنشطة وأساليب مقاومة ورفض تأخد نوع من الابتكارية والإبداع، فكل شكل من التعبير اللفظي أو الجسدي أو الممارساتي هو آلية دفاع عن كيانه من جرف هذه الأنظمة التي يراه مخدر يحاول الفتك به وبكل إرتباطاته الفعلية بالمجتمع، المفارقة العجيبة والغريبة أن التعامل السطحي مع هذه السياسات هو تعامل طبيعي، يتأرجح ما بين القبول الشكلي والرفض المضموني، لذلك هذا الصراع بين الدولة والفرد هو صراع نفسي يسمى بالاغتراب، فهذه الحالة أُطلق عليها تسمية المرض المجتمعي، لأننا كلنا مصابون بها، فكلنا نعيش تحت لواء السلطة، ولا أحد منا يتجرأ عن التفوّه عما تمارسه من اختلالات وظيفية على مستوى مؤسساتها، وعلى مستوى أرضية الملعب "الواقع"، فعقل الفرد العربي هو عقل يمتاز بالرجاحة والخفة والفطنة، لكن كل هذه الصفات تنقصها أن تظهر للعيان لا أن تمارس ضمن حالة الإغتراب النفسي والمجتمعي داخل حلقته المغلقة، فهذه التشكلية الثلاثية ما فتأت تتحول وتفعل فعلتها وتترجم حيثياتها في الأتموسفير العام.

يكشف حليم بركات عن رموز الاغتراب في الثقافة العربية ويرجعها إلى الفروق والممارسات القمعية التي يشكلها هرم التابوهات

يكشف حليم بركات عن رموز الاغتراب في الثقافة العربية ويرجعها إلى الفروق والممارسات القمعية التي يشكلها هرم التابوهات (العائلة والدين والاقتصاد)، إذ فقد الفرد الكثير من مناعته وتحكمه بوظائفه الحيوية وموارده المادية والروحية في علاقته بالدولة التي تخضع بدورها لإرادة القوى الخارجية والعائلات الحاكمة المحلية، ومن هنا يصبح المجتمع قاصرًا على تجاوز المحن الموضوعة والمتراكمة أمامه، بالتالي يصبح الفرد يعاني من التهميش والفئوية والإفقار، وتتسع بذلك عمق الفجوة بينه وبين واقعه.

اقرأ/ي أيضًا: مدائح الاغتراب والمنفى وما شابهها من أكاذيب

تشابك المسألة وتعقيدها إثراء للمادة العلمية من جهة، وإغراق للفرد العربي بهذا الصراع  من جهة أخرى، فالإنتروبيا أو الاعتلاج الاجتماعي هو خلل في وظائف وأعضاء المجتمع، فالوعي بضرورة التغيير أصبح مطلوبًا وحقًا مشروعًا للجميع، وهو مسؤولية جماعية الآن وغدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ميلانخوليا عولمية النيوليبرالية وانعزاليتها

هل أصيب المثقف العربي بـ"متلازمة ميدان تيانانمن"؟