19-ديسمبر-2019

مطبعة يوهان غوتنبرغ

لقد أنجبت الصحافة الدورية: الصحف والمجلات الورقية سابقًا وحاليًا، ويضاف إليها حديثًا المواقع الإلكترونية بحكم التطور في محامل الكتابة جيلًا من الكتاب الذين يعتاشون من الكتابة، وخضعوا لمبدأ الاستكتاب.

جبران خليل جبران: "نحن لسنا آلات تلقمونها الحبر والورق من جهة لتستخرجوا المقالات والقصائد"

في إحدى رسائل جبران خليل جبران لمي زيادة، كتب لها قائلًا: "نحن لسنا آلات تلقمونها الحبر والورق من جهة لتستخرجوا المقالات والقصائد من جهة ثانية. نحن نكتب عندما نريد أن نكتب، لا عندما تريدون أنتم، فاعملوا المعروف معنا واتركونا وشأننا، فنحن في عالم وأنتم في عالم آخر". (الشّعلة الزرقاء، ص 170)

اقرأ/ي أيضًا: 4 وقفات في أرشيف الصحافة

لقول جبران جانب كبير من الصحة، وهو مرتبط بالحرية التي يجب أن يتمتع بها الكاتب، بحيث لا يخضع لأي نوع من الضغوطات الاجتماعية أو المادية أو النفسية أو الثقافية، بل الكاتب يكتب عندما تدفعه الكتابة أن يكتب مجردة عن أي هدف، ويجب ألّا يخضع لمبدأ الاستكتاب الذي خلّف جيلًا من الكتّاب الآلات الذين استثمروا هذا المبدأ النفعي كقانون كتابي له انعكاساته السلبية على الكتّاب ومستوى الكتابة. عدا أنه يحول الكتّاب إلى تجار، يبيعون المقالات لرؤساء التحرير ويتقاضون ثمنًا لذلك، يجدونه في حساباتهم البنكية، وأصبح الأمر عرفًا وعادة، بل غدا استحقاقًا وحقًا.

كثيرون يسألونني هل "تقبض" مقابل هذه المواد التي تنشرها، وهم يرونني ذا حماسة بالغة في الكتابة، وتحمل مقالاتي وقصائدي صحف كبرى وصغرى ومواقع إلكترونية شتى؟ يستغربون عندما يعلمون أنني لا أتقاضى "فلسًا" واحدًا أو "سنتًا" أو "أغورة"، أراهم يمطون شفاههم وربما قالوا في سرهم إنني كاذب. إنها الحقيقة لم أتقاض مقابل ما كتبت إلا أحيانًا قليلة جدًا، ومنذ زمن بعيد، وذلك عندما نشرتُ مقالتين في مجلة مشارف مقدسية، وبضع مقالات في مجلة الإسراء ومقالة واحدة في مجلة شؤون فلسطينية. ولم يتجاوز ما حصلت عليه في هذه المجلات سوى مبلغ زهيد لا يصل بمجموعه 500 دولار في أحسن الأحوال.

لم أكن في يوم من الأيام كاتب عمود أسبوعي في أي صحيفة أو مجلة أو كاتب زاوية في أي موقع إلكتروني، يخيل إليّ أنني سأصبح مستعبدًا بالالتزام الأخلاقي من أجل الوفاء بموعد الكتابة، وسيكون الفكر دائمًا مبرمجًا من أجل الكتابة المحددة التي ينتظرها رئيس التحرير، وهذا يعني أيضًا أنني لن أكون حرًا في الكتابة، حجمها، وموضوعها، وطريقة عرضها، ولست حرًا في قراءاتي أو اختياراتي في المطالعة، وستنتفي المتعة المحضة في تلك القراءات.

كذلك سيكون الأمر سيئًا عليّ بالتأكيد، لو حدثت نفرة الكتابة ولم أستطع الوفاء بالتزاماتي، مع أنني مثلًا غزير الكتابة في موضوعات شتى، ولكن لست أدري متى تفاجئني تلك "الحرنة" المخيفة، كيف سيكون موقفي، وما هي الكتابة التي سأكتبها تحت ضغط الواجب، كتابة بلا حب ولا دافع حقيقي، تفرضه حاجة الكتابة ذاتها لا حاجة رئيس التحرير، وسيكون هو أيضًا مضطرا للقبول بأي مادة مهما كان مستواها، فثمة فراغ في الصحيفة يجب أن يمتلئ.

إن الكتابة تحت مسمى "العمود الصحفي" ما هو إلا استنزاف للكاتب وأفكاره، وهو يشبه إلى حد بعيد مربع الفيسبوك الذي يستنزف أفكار الكتّاب أولا بأول، ويقضي على التأمل والنضوج ووضوح الرؤيا، وسيأتي على الكاتب يوم يصبح فيه "مجترًا" لأفكاره، يعيد صياغتها بطريقة أخرى. فالعمود الصحفي، كمربع الفيسبوك، جائع دائمًا ونهم لا يشبع، يعلّم الكتّاب أو يدفعهم إلى عمليات "النصب" و"الاحتيال" الثقافيين. وربما لجأ بعضهم إلى اقتناص مقالات من هنا وهناك، ليحوّر فيها بعض الجمل أو يغيّر العناوين، ليخفي ما عملت يداه. كل ذلك من أجل تحديث حالته في عموده الصحفي، وكأنه مربع الفيسبوك الذي يمنحك النشرُ فيه الحضور في متصفحات الأصدقاء والمتابعين.

يحدث ذلك في الصحافة والكتابة لها بشتى أشكالها ومحاملها، وكثير من الكتبة أصحاب النفوذ لدى رؤساء التحرير يسرقون المقالات ويعيدون صياغتها، وربما دفع ذلك الاستكتابُ الكتّاب الذين ينتظرون "المبلغ المالي" إلى السرقة أيضًا، ولا تقف السرقة عند المقال العابر الخفيف، بل ربما امتد الأمر إلى سرقة الأبحاث المحكمة، وقد صادفت ذلك في مجلات كبرى، حيث نوهت أن باحثًا ما سرق بحثًا لباحث آخر، كما يحدث أيضًا في الرسائل الجامعية. إنها فضيحة تهوي بالباحث في الهاوية، وتودي بسمعته إلى الأبد، وسيظل الوسط الثقافي يذكرها، ولن ينساها.

الكتابة تحت مسمى "العمود الصحفي" ما هو إلا استنزاف للكاتب وأفكاره، وهو يشبه إلى حد بعيد مربع الفيسبوك

وحتى لا أكون متجنيًا بشكل مطلق على الفكرة ذاتها، عليّ التذكير بكتاب عرفوا بالعمود الصحفي وكبرت أسماؤهم من خلال هذا "الاستكتاب" وأنتجت كتاباتهم تلك كتبًا، من ذلك طه حسين ومي زيادة وحسن البطل وعادل الأسطة وغسان كنفاني، وغيرهم، وربما أيضًا دفعت الكتابة في العمود الصحفي الأسبوعي أو اليومي الكاتبَ إلى أن يظل متحفزًا، باحثًا عن الجديد، قارئًا، ومتابعًا لكل جديد.

اقرأ/ي أيضًا: عصر "النيومكارثية".. عشق أمريكي للتجسس على الصحافة

ربما الكتاب الذين نجوا من سيطرة "العمود الصحفي" قلة، إلا أن فكرة الاستكتاب بشكل عام تضع الكاتب تحت محنة الاختبار، فتأتي الكتابة ضعيفة غالبًا؛ لأنها تلبي حاجة خارجية لغير الكاتب، والكتاب ليسوا سوى أدوات تنفيذية خاضعة لإرادة الغير. هذا الغير الذي سخره لتظل صحيفته قائمة ومجلته حاضرة وموقعه الإلكتروني متجددًا، وماذا سيكسب الكاتب؟ هل سيكسب "مالًا"؟ وما قيمة المال بجانب متعة الكتابة بشغف؛ تلبيةً لحاجة الكاتب النفسية الذاتية النابعة من منطقة ما في كيانه لا يدري على وجه الدقة أين تكون؟ فالكتابة غامضة عصية على التفسير إلى الحد الذي لا تدري لماذا أنت تكتب ولمن. اللهم إلا أن هناك دافعا يغري بك لتستمتع وأنت تسبر أغوار ذاتك، بعيدًا عن فكرة الاستكتاب و"المبلغ المالي"، هذه السوسة التي تنخر عصب الكتابة وتفرغها في أحيان كثيرة من رصانتها وأبهتها وجلال صنعتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحافة العلمية.. جسر العلماء مع الجمهور

الصحافة في مصر.. تهمة كافية!