03-مارس-2021

البابا فرنسيس والسيستاني، بغداد في 3 آذار/مارس 2021 (Getty)

عادة ما تستخدم عبارة وجمل في تقديم الكتب والقصائد والمقالات والأعمال السردية، قد تكثّف هذه الجمل والمقبوسات فكرة ما، أو توحي بشكل أو بآخر ما يمكن أن تضمر النصوص، يستخدمها الأدباء والكتّاب لأسباب متخلفة، والأمر مختلف جذريًا عما يحصل في حقول النقد والبحث والدراسات فهذه الإحالات وطرق استخداماتها المتعددة في هذا الجانب، تكون هذه العتبات معززة للنص بشكل عام وهي لا تشبه التناص والاشتغال على تغيير سياق العبارات فتلك موضوعة أخرى.

تُملأ أروقة المنصات عبارات مقتبسة مرصودة بطريقة سيئة لنص لا ينسجم معها، إذ تبدو كأنها تسبح في فضاء غير الذي جاءت من أجله

كثير من الكتب قدمتها مقاطع وجمل أو شذرات ويستخدم بعض الأدباء جملًا لهم في تقديم الكتب، لكن النسق السائد هو سحب جملة أدبية أو فلسفية ووضعها كعتبة نصية في واجهة الكتاب، ربما لأن الكاتب يرى أن جل ما يقوله يدور في فضاء هذه الجملة أو ربما هي إضاءة تكثّف وتفتح المعنى بالوقت نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: أن تكون في بغداد

جرى اعتماد هذه التقاليد الثقافية في عصور متأخرة على ما يبدو، فعند معاينة آثار الجاحظ والتوحيدي مثلا سترى أنها تخلو من جملة لآخرين تقدم النص، وكل هذا التقديم يحصل داخل النص المكتوب الذي يمكن اعتبار النصوص التي تنشر في الميديا جزءًا منه بحكم أن هذه النصوص يمكن أن تخرج من السياق الميديوي لتضمّن في كتاب لاحقًا وهذا حصل بالفعل للكثير من النصوص.

ما يحدث أغلب الأحيان أن جملة متداولة ولا تحمل سوى معناها الأصلي يحاول النص أن يغير مدلولاتها لدعم قضايا اجتماعية وسياسية ودينية لا علاقة لها بسياق تلك الإضاءة التي تم سلخها من النص الأصلي، فعادة ما توضع في سياق وعظي لا يخلو من التبجح وسوء الفهم، على غرار استخدام الخطباء للمقولات التاريخية، حتى تشعر في الكثير من الأحيان أن هناك اتفاقًا ذهنيًا ومنهجيًا بين الخطباء ومستخدمي تلك الجمل في الميديا، فتقدم تلك العتبات النصية إشارات اشهارية للمتلقي كما أنها توفر بعض الحماية للنص ولها استخدامات أخرى أكثر خطورة.

وهنا سوف ننشغل في توظيفين لهذه الجمل والعبارات أحدهما ميديوي/ مكتوب/ إشهاري، والآخر شفاهي /سياسي/ أيديولوجي. ورغم أن مصطلح العتبات النصية ينفتح ليشمل غلاف الكتاب وعنوانه وللعناوين الداخلية، لكننا هنا حين نستخدمه نقصد به على وجه التحديد الجمل والعبارات والمقبوسات.

مقبوسات تنثر مجانًا في الميديا

إلى حد كبير يبدو الجانب الأدبي في استخدامه للمقولات والعبارات واضح ومبرر وله اشتراطاته، فتوظيف تلك العتبة يخضع لاعتبارات أدبية وجمالية وفلسفية، لكن السنوات الأخيرة بدأت تُملأ أروقة مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الإضاءات والعبارات على غرار ما يحصل في الكتب، وأول ما يلاحظ بشكل مباشر أن استخدامها في الميديا ليس أصيلًا، فهي مرصودة بطريقة سيئة لنص لا ينسجم مع العبارة، فتبدو وكأنها تسبح في فضاء غير الذي جاءت من أجله، وكأنها وحدها تدور في مسار تاريخي ولغوي يخصها غير مكترثة بالنص الذي يوظفها، إذ تظهر عزلتها وتحاول سحب نفسها بمنأى عن الجمل المرصوفة حولها، ثم تأتي عملية تواطؤ مع النص والتي تكمن في إشادات المتفاعلين، رغم أن العملية تبدو مجانية إلى حد بعيد لكن ينبغي الالتفات إلى أنها قد تحقق غايات أيديولوجية وتحاول كسب مقبولية معينة، خصوصًا تلك المقولات ذات البعد الديني أو المأخوذة من الكتب المقدسة والأحاديث الخاصة بالأنبياء والأولياء، وهذا ما تفعله عادة الصفحات الرسمية وغير الرسمية المرتبطة بالأحزاب السياسية، فترى منشوراتها الميدوية تضمن العبارات القرآنية والأحاديث النبوية قبل أن تشرع في الحديث، وهذا ما يجعل مهمتها تبدو سهلة ويسيرة لأنها استعانت بما يرغم الآخرين على الاصغاء وهذا ما يسوغ تمددهم الشعبي والميديوي.

في العراق، الصفحات الرسمية وغير الرسمية المرتبطة بالأحزاب السياسية، تضمن منشوراتها الإلكترونية العبارات القرآنية والأحاديث النبوية

اقرأ/ي أيضًا: ضياء جبيلي.. عراق مشطور

وفي بعض الأحيان تصبح الجملة المقوسة هي الحسنة الوحيدة، ويبدو تناولها كظاهرة ثقافية بعد انتشارها بشكل واضح ومبرر بعد أن بدأت في أخذ حيز كبير من التأثير، وضمن هذا التأثير أنها تقلل من التماع العبارات فهي سوف تستهلك حين تمر بشوارع الفيسبوك وتصبح دارجة فتفقد بريقها عند بعض الناس، فما يتكرر يصبح أقل أهمية.

ولا ننسى أن جزء من اعتماد هذه العبارة يحدث لأسباب استعراضية فيريد، الكاتب/ الصفحة، أن يوهمنا أنه قد قرأت كثيرًا حتى عثر جوهرة ووضعها داخل السياق، فيما ينبغي استخدام هذه العبارات وفقًا لاشتراطات معينة، ومن ضمن هذه الإشراطات ألا توضع بمجانية وأن تحمل قصدية معينة ولا يتم التلاعب بها.

ومن جانب آخر، يشير استخدام العبارات الرائجة إلى حالة الكسل الثقافي، كما تؤكد إلى أي حد أصبحت ثقافة "الكوبي بيست" رائجة، الدعاية والإشهار الثقافي والمقولات تلك لا تعطي قيمة لنص لا قيمة له بالمجمل.

الرواج الذي تحظى به المقولات المرتبطة بالأسماء الفلسفية والفكرية يحمل في طياته كسلًا ثقافيًا ينبغي الالتفات له، ويبقى من غير المعقول أن تأخذ شذرة من السيد نيتشه أو هايدغر من أجل إثارة فضول القارئ، بينما يتناول النص قصة لا علاقة للسيدين أعلاه به، فحينها سيشعر كلاهما بالندم مجازيًا لأنهما تركا عبارة مثل هذه يمكن أن تؤخذ من أجل مكاسب إشهارية وشخصية وأيديولوجية.

فاعلية الخطاب السياسي والعتبات النصية

لا يكاد خطاب سياسي في عراق ما بعد 2003 يخلو من العتبات النصية ذات المزاج الديني على وجه التحديد، إذا لم تكن آية من القرآن فحديث نبوي، وفي درجة أقل تستخدم أقوال الأئمة الأثنى عشرية، فكما نعلم أن غالبية التشكيلات السياسية في النظام العراقي ذات بعد ديني عرقي يتكتل طائفيًا متى ما كانت الفرصة مؤاتية، لذا ترتبط هذه التشكيلات بمراجع ورجال دين ورموز دينية، وتصبح الرمزية أكثر وضوحًا عند حزب الدعوة والمجلس الأعلى اللذين يضيفان "الإسلامي" على اسميهما استعانة تأتي بثمارها في كل عملية اقتراع.

يشير استخدام العبارات الرائجة إلى حالة الكسل الثقافي، كما تؤكد رواج ثقافة "الكوبي بيست"

اقرأ/ي أيضًا: جيرترود بيل.. المرأة التي صنعت العراق

من غير الممكن أن يبدأ رجال الدين حديثهم دون البدء بالقرآن الكريم أو حديث قدسي وهذا يبدو مبررًا وواضحًا، لكن الذي يحدث منذ 2003 حتى الآن هو أن خطاب رؤساء الكتل والنواب والسياسيين العراقيين على مختلف خلفياتهم يبدأ بتلك العتبات التي أصبحت هي الرابط الوحيد بين السلطة والمجتمع، وهي المشترك الوحيد بين السياسيين والمواطنين، فلا يبدأ المالكي وهو رئيس للوزراء حديثه إلا عبر هذه العتبات وكذا كان يفعل المستقبل عادل عبد المهدي وغيره، وزراء ومسؤولين في الدولة العراقية قادة عسكريين وأمنيين لا يملكون جوازًا للمرور إلا عبر هذه العتبات والمقولات والجمل، فهل هذا يأتي مصادفة أم إنه مؤشر بالغ الأهمية على إننا إزاء نظام ديني يفشل بالاعتراف بذلك فمثل تلك التفاصيل تخبرنا بالكثير حول طبيعة النظام العراقي؟

وحتى لا يبرز التباس يجب أن نقول إن الدولة بصفتها الراعي الرسمي للأنشطة السياسية وأداة للهيمنة يجب أن تكون الجهة الحامية للهوية الوطنية، ومن يدخل ضمن سياقها يحتفظ بهويته الدينية الخاصة إزاء الهوية الوطنية، وما يحدث في العراق هو عكس ذلك تمامًا، فنحن هنا لا نطلب من رجال السلطة التخلي عن انتمائهم الديني أو العرقي أو الطائفي، بل يجب أن يبقى خارج إطار الاستثمار والابتزاز العاطفي الذي أصبح هو الهوية الأساس للدولة العراقية منذ العام 2003.

لكن كل هذا يذلل مصاعب تحليل خطاب هذا النظام ورده بسهولة إلى الإطار والبعد الديني الذي بات يحمي هذه المنظومة السياسية التي أوشك على الانهيار مرات عديدة، ولم يتبقَ لها إلا استثارة تلك المنطقة الدينية وإشباع تلك النزعة الدينية التي قمعت على يد النظام البعثي السابق، وربما هذه الحلقة هي الأقوى التي تجعل الناس تلتف حول هذه المكونات السياسية التي تركن إلى الطائفية كلما احتاجت أصوات المجتمع.

لا بد من الإشارة إلى أن الأحزاب الدينية العراقية تضع في واجهاتها مقولات من هذا النوع لأنبياء وأولياء وعبارات قرآنية، وتستخدم تلك العبارات من أجل إعطاء شرعية لتلك الجماعات كما تشرعن أفعالها وتأخذ قوتها الرمزية من تلك العتبات، وتبقى هذه الكلمات هي مجرد إشارة ذهنية أن هذه الأحزاب تحقق للمواطن نوع اطمئنان، فالمواطن المسلم لا شك يميل للأحزاب التي ترفع يافطة الإسلام، ونفسيًا هو أبعد ما يكون عن الأحزاب التي ترفع شعارات مدنية وعلمانية وتؤكد مفهوم الدولة، هذا أن توفرت مثل تلك الأحزاب. يذكر أن أغلب التكتلات وقوائم الانتخابات أيضًا تستخدم عبارات ومفردات ذات سياق ديني، على سبيل المثال "الأحرار، صادقون، الفتح، الحكمة" مفسرين التسمية للمستفهم بآية قرآنية أو مقولات دينية.

من غير المعقول أن تأخذ شذرة من نيتشه أو هايدغر من أجل إثارة فضول القارئ، بينما يتناول النص قصة لا علاقة بهما!

لقد جرى استثمار العتبات النصية بشكل ذكي من أجل قضايا سياسية، وعملية التخادم هذه مستمرة منذ عقود، جرى ذلك عبر سلسلة من التوافقات غير المعلنة توافقات على نحو يجعل من النصوص والعبارات مجرد عتبات وشفرات تفتح فيها المغاليق ليمر عبرها الخطاب، مكرسًا مهيمنات تسعى القوى السياسية والدينية لمسك زمام الحياة فيها.

اقرأ/ي أيضًا: شاهدٌ على الثورة.. عندما ولد العراق من ساحة التحرير

ومنذ عقود أيضًا تهيمن الخطابات العاطفية ذات البعد الديني على الأجواء السياسية العراقية، وكل ذلك يجري عبر استخدام الكلمات المقدسة، وعبر الاستثمار الأيديولوجي لتلك المقولات بطريقة برغماتية تجعل منها سندًا وداعمًا وشريكًا في لعبة المكاسب والاستثمار السياسي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: بغداد.. تاريخ مدينة السلام‎