31-يوليو-2018

الاحتجاج بتأدية صلاة الجماعة في مدينة ورقلة جنوب الجزائر (فيسبوك)

تمثل مساحة الجنوب الجزائري ثلاثة أرباع إجمالي المساحة العامّة للبلاد التي تقترب من مليونين و400 ألف كيلومتر مربّع. ويعتمد الاقتصاد على النفط الذي يمثل ما يزيد عن 95% من إجمالي الصّادرات، ومع ذلك ظلّت التّنمية والقضاء على البطالة وتحقيق وسائل العيش في بيئة تتجاوز فيها درجة الحرارة صيفًا 50 درجة مئوية، المطلب الأبرز لسكّان الولايات المشكّلة للجنوب الجزائري.

احتل سكان ولاية ورقلة جنوب الجزائر ساحة خصصتها وزارة الثقافة لإقامة حفلات فنية، مطالبين باستغلال الأموال "المهدرة" على تنمية المنطقة

وتراوحت سياسات الحكومات المتعاقبة في التّعامل مع هذه المطالب، بين الصّمت والوعود والحلول الترقيعية. ولم تحملها بعض الانتفاضات الشّعبية على أن تذهب إلى ابتكار حلول حقيقية، حتى في عزّ انتعاش أسعار النّفط.

اقرأ/ي أيضًا: فقراء في الجنوب الجزائري الغني بالنفط

وقبل أيام، وفي خطوة غير مسبوقة، احتلّ سكان ولاية ورقلة، التي تبعد عن الجزائر العاصمة 800 كيلومتر جنوبًا، السّاحة التي خصّصتها وزارة الثقافة لإقامة حفلات فنّية في إطار تظاهرة سمّتها "لنفرح جزائريًا"، وطالبوا بإلغاء هذه الحفلات، التي تستهلك، بحسبهم، أموالًا طائلة في ظلّ حاجة المنطقة إلى مرافق تدخل في صميم الاحتياجات العامّة.

يقول الإعلامي مصطفى بن عبد العزيز لـ"ألترا صوت"، وهو منحدر من تلك المنطقة، إنّ المحتجّين "لم يكونوا ضدّ الفنّ والفنّانين، بل ضدّ هدر المال العام على أمور ليست من أولويات المنطقة حاليًا"، مضيفًا: "في ظلّ غياب بنية تحتية في النّقل والصّحة والتّعليم والسّكن والعمران، وانتشار البطالة بشكل يتنافى مع كون المنطقة حاضنة لآبار النّفط، يصبح تنظيم مثل هذه الحفلات، التي تدرّ على المغنّين فيها مبالغ خيالية نوعًا من التّرف والضّحك على النّاس".

ونفى عبد العزيز أن تكون الاحتجاجات بإملاء من أطراف سياسية أو حزبية، "بل هي ثمرة لوعي الشّباب والتّنسيق بين فعاليات المجتمع المدني"، كما قال، مضيفًا: "لقد عوّدت الصّحراء الحكومات المتعاقبة على الهدوء والصّمت والصّبر والقبول بالفتات، وحان الوقت لتعلن عن نفسها سلميًا في المطالبة بحقوق اجتماعية واقتصادية طالما سلبت منها".

وسرعان ما فرضت الحركة حضورها في مواقع التّواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التّقليدية، فباتت الحدث الأبرز في الفضاء الجزائري. وقد أدّت فعلًا إلى إلغاء الحفلات المبرمجة، منها حفلة نجم أغنية الرّاي كادير الجابوني، الذي فاجأ الجميع بفيديو أعلن فيه مساندته للمحتجين: "إذا كان إلغاء حفلي سيوصل مطالب المحتجّين إلى حيث يجب أن تصل، فأنا ابن الشّعب ولا يمكنني إلا أن أكون في صفّ أبنائه".

 

 

غير أنّ قطاعًا واسعًا من المثقفين والإعلاميين توجّسوا من الحركة، بحكم أنّ المحتجّين عوّضوا الحفلات الفنّية بأداء الصّلاة في السّاحة نفسها، بما قد يكون، حسبهم، مؤشرًا لانتشار قيم التطرّف المصادرة للفنون، والعودة إلى بداية تسعينات القرن العشرين.

يسأل الأكاديمي عاشور فنّي: "الموضوع هو لماذا ترفع المطالب الاجتماعية وشعار التقشف فقط حين يتعلّق الأمر بالثقافة؟ هل يمكن رفع المطالب نفسها ضدّ كرة القدم مثلًا؟". ويضيف عاشور فنّي في تدوينة أخرى: "الأصولية الثقافية أسبق من الأصولية الدينية وأخطر منها وأكثر تلوّنًا. الفتاوى الثقافية حلّت محلّ الفتاوى الدّينية".

وذهب الشاعر والإعلامي عادل صياد في تدوينة له، قبل أن يحذفها ويعتذر للمحتجّين، إلى حدّ مطالبة رجال الأمن إلى اعتقال المحتجّين والذّهاب بهم إلى معتقل رقّان، الذي اعتقل فيه أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد توقيف المسار الانتخابي مطلع التّسعينات. معتبرًا أنّ المطالبة بإلغاء حفلات فنّية وتعويضها بالصّلاة، مؤشّر على احتلال ناعم للسّعودية للشّارع الجزائري، "أرفض الاحتلال السّعودي لبلادي". 

ثم كتب تدوينة أخرى قال فيها: "في 1999 لما جاء بوتفليقة، كان الإسلام السياسي والسلفي والإرهابي بحالة انهيار وهزيمة تاريخية. فنفخ فيه الحياة بقانون المصالحة".

في المقابل يرى أستاذ جامعة ورقلة، مشري بن خليفة، أنّ كثيرًا من المواقف المتّخذة ضدّ الاحتجاج نابعة من جهل أصحابها بخصوصيات الجنوب الجزائري، قائلًا: "للأسف الشّديد الكثير لا يعرف الجنوب الجزائري ولا أهله. ولم يذهبوا إليه لا في الصيف ولا في الشتاء، وعلى الرغم من ذلك يكتبون وينتقدون ويشتمون ويصدرون الأحكام المجحفة في حق أهله وسلوكاتهم ومواقفهم. لا أحد منهم ذهب إلى هناك ليكتب عن حجم المعاناة التي يعيشها هؤلاء منذ سنوات خلت. ولما عبروا عن مواقفهم اتهموا بكلّ التهم".

من جهته، قدّم أستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر، نور الدّين جبّاب، قراءة للاحتجاج بأداء الصلاة، فوصفها بأنها صلاة سياسية لا غير، وقال إنها من أجل لفت الانتباه إلى المطالب التي ظلت معلقة: "إن الصلاة التي أقامها أهلنا في الجنوب في الساحات العامة، في هذه الحالة ليس كما يروج لها أدعياء الحداثة بعباراتهم المجترة المملة، بل لم تكن حتى من أجل التقرب إلى الله إنما كانت وسيلة نضالية وأداة كفاح وطريقة تجنيد وتعبئة".

وشرح جبّاب فكرته: "بعبارة أخرى أكثر بساطة ووضوحًا، في غياب أفكار عصرية وأيديولوجية عصرية وثقافة عصرية وحياة عصرية وفكر عصري، جعلت الجماهير من الصلاة في الساحات العامة وسيلة ثورية وأداة نضال و أسلوب كفاح و إطارًا للتجنيد والتعبئة وشحذ الهمم". 

رأى البعض أن صلاة الجماعة التي أداءها محتجو ورقلة الغرض منها لفت الانتباه لمطالبهم، بينما عارضها آخرون رفضًا لإقحام الدين في السياسة

يبدو أنّ سكّان الصّحراء الجزائرية شرعوا في الفترة الأخيرة يكسرون حكمًا جاهزًا هو ارتباط تحرّكات المجتمع المدني ضد الحكومة بالشّمال، بالنظر إلى توسّع الطبقة الجامعية في المنطقة واستفحال النقائص المتعلّقة بالتّنمية، رغم اعتماد الاقتصاد الوطني على ما نسبته 95 بالمئة من صادراته على الجنوب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ورقلة" الجزائرية.. قبلة العاطلين عن العمل

الجنوب الجزائري والبكالوريا.. لماذا المراتب الأخيرة؟