كنا قد تأخرنا كثيرًا، والآن نحن العرب، متأخرون جدًا، عن تمثل ما صار بديهيًا اليوم في العالم، وهو تكنولوجيات العيش المشترك أو العيش الجماعي، بما يتجاوز الميل الغريزي للعيش في جماعات، حيث تقرر السلطة لوحدها نوعية هذا العيش، وأساليب إدارته.
هذه المعضلة لم تحل على الرغم من مرور مائة وخمس وسبعون عامًا على اكتشافها والإشارة إليها من قبل رجالات النهضة العربية، من أمثال فرنسيس المراش الحلبي ورفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وسلامة موسى.. وغيرهم ممن اهتموا بالمسألة الاجتماعية وانتهى فعلهم مع بداية خمسينيات القرن الماضي لتختفي الدراسات الاجتماعية وعلومها من الحياة العامة، إلا بعض شذرات هنا وهناك ترصد هذه الأنواع من الاجتماع البشري، من دون السؤال عن وجود مجتمع حقيقي أم لا.
المقصود بالمجتمع الحقيقي هنا هو المجتمع الحديث واضح المعالم والمصالح، ومن هنا ظهر مصطلح مجتمعات ما قبل اجتماعية (مجتمعية)، وفي ذلك تزيد في الخضوع للتصريف اللغوي لمصدر جمع، لتتحول اللغة إلى مصدرًا للمعرفة، بدلًا أن تكون جامعة لها، أو هي أي كلمة مجتمع ترجمة تقريبية للمصطلح الأجنبي (society) التي تعني أكثر بكثير من اجتماع الناس في مكان واحد، أو أمكنة متقاربة. فالمجتمع هو تكنولوجيا وتكنولوجيات العيش الجماعي، وليس ارتجالًا غريزيًا بالإحتماء بالجماعة الكبرى المتاحة. إنه تنظيم المصالح وإدارتها بالتسالم، بمعنى الامتثال للقيم العليا التي تطلقها هذه المصالح التي يعبر عنها بالإنتاج الإبداعي الذي يتطلب تحرير الإرادة، وعليه لا يمكن تصور نسيج جماعي قادر على الشبع والمنعة، من دون ممارسة القيم العليا لهذه المصالح، وهي قيم معيشية بالضرورة، لا يمكن الحياد عنها قيد أنملة، لأنها تأخذ شكل القواعد الحقوقية، التي لا تسمح القيم المذكورة بالانزياح عنها مهما كان الأمر استثنائيًا، فالكرامة، والمساواة، والحرية الفردية، وحق الحياة وغيرها، هي مؤشر واضح وقاسٍ عن وجود مجتمع من عدمه.
اليوم واجهت وتواجه السكانيات العربية امتحان العبور الى الشبع والمنعة، والثورات "كانت" البوابة لهذا العبور، ولكنها ليست العبور ذاته
المجتمع لا يقبل التمرحل إلا أثناء ارتقائه، فإما هو موجود ممثلًا بتكنولوجيات إدارته من أحزاب ونقابات ومؤسسات، وبالتالي دولة أي تكنولوجية إدارة المجتمع، أو غير موجود وتديره سلطة بتكنولوجيات التسلط المعهودة من عسكر وإيديولوجيات وبيروقراطية معيقة ونتائجها المعروفة في الأوساط العربية.
هنا يكمن الأسف من التأخر في إرساء المجتمع إلى هذا الوقت، فالثورات العربية أغفلت الشأن المجتمعي، واستبدلته بالاجتماعي، ما يعني الاستمرار في إدارة أزماته، وما نراه من أداء ثوري في ليبيا وتونس والسودان واليمن ومصر وسوريا وحتى العراق ولبنان لا يمت إلى الثورية بصلة، فعمل الثورة هو رعاية توليد مجتمع بإطلاق إرادة أعضائه في التعبير عن مصالحهم وتنظيم هذا التعبير بعقد إجتماعي علاني يحاسب طرفاه على الإخلال به، وعلى هذا العقد تنطلق الديمقراطية والعدالة وتوزيع الثروة، هذا ما سعت إليه كل أمم الأرض ولما تزل تسعى إليه، وفشلت كل محاولات العيش بشبع ومنعة، من دون مجتمع المصالح الدنيوية هذا الذي أصبح من بدهيات العيش الجماعي في أصقاع الأرض، ولم يندم شعب على اعتماده المطلق على تطبيق قيمة المساواة في الاستجابة للمواطنة كطريقة وحيدة للأداء المجتمعي، بينما ندمت كل الشعوب التي اعتبرت نفسها تجمعات سكانية بحاجة إلى سلطة تديرها. فمفهوم الدولة كتكنولوجيا لا يتوافق إلا مع مجتمعات، وإلا تم الانتقاص من القيمة الحقوقية للسكان، حيث تساويهم العدالة بجرعات الظلم، تحت شعارات الحالات الإستثنائية الدائمة، أو تحت الشعارات الأيديولوجية الثابتة، التي لا تعرف للتطور البشري طريقًا، ومع المساواة بالظلم يتحقق مبدأ المساواة العامة عن السلطة المرتاحة لقناعة رعيتها بهذه المساواة، حيث لا أحد ينتفض لظلم أحد، حتى لو أدى هذا الظلم إلى المساس بمصالحه هو نفسه، بحيث يتم القضاء على مبدأ الإنتاج الإبداعي الخاص بالمجتمعات فقط، بما يعني الإفتقاد الى التنمية لوقت طويل قادم.
اليوم واجهت وتواجه السكانيات العربية امتحان العبور الى الشبع والمنعة، والثورات "كانت" البوابة لهذا العبور، ولكنها ليست العبور ذاته، فإذا لم يكن هناك مجتمع مؤسس على القيم الحديثة والحداثية يستقبلها، فعلى هذه التضحيات السلام، ولم يكن هناك مبرر لقيام هذه الثورات في مآلها لما يشبه مآل ليبيا والسودان. المجتمع الحديث واضح، وتكنولوجياته واضحة وقابلة للممارسة اليومية كما كل خلق الله في بلدان العالم، ولا يحتاج إلا إلى تطبيق هذه التكنولوجيات، التي صارت إلى بديهيات، كي يتم العبور الى المجتمع، مجتمع الشبع والمنعة.