22-سبتمبر-2020

الحرية كقيمة وكمفهوم شيء في غاية الأهمية والحساسية (Getty)

ظاهريًا نجد أن السقوط نُعِت بالحرية بينما الثبات على الطريق نُعِت بالتقيُّد، والإنسان بطبعه نزّاع إلى الحرية، توّاق إلى التحرر، كاره للقيود، ساخط على التقيُّد، ولكن عند التدقيق في الأمر فإنك إذ تختار التقيّد والالتزام بالطريق قدر الإمكان فأنت أولًا تمارس حريتك في الاختيار، وثانيًا تتحرر من رغباتك وأهوائك الحيوانية الدنيوية، فلا يخلو تقيّدك من حرية وتحرر.

السقوط نُعِت بالحرية بينما الثبات على الطريق نُعِت بالتقيُّد، والإنسان بطبعه نزّاع إلى الحرية، توّاق إلى التحرر، كاره للقيود

وعلى الجانب الآخر إذ تختار التحرر من القيود والتمرد على الطريق فأنت تمارس حريتك في الاختيار، ولكنك تقيّد ذاتك في عبودية ذاتك برغباتها وأهوائها، وتسقط في قيود وضعتها لنفسك من حيث لا تدري، فتصورك أنك حر تمامًا فيما تفعل هو تصور واهم، فقد أصبحت إلهًا لنفسك وعبدًا لنفسك، وبذلك لا تخلو حريتك من تقيّد وعبودية.. إذًا فإن في بعض التقيّد حرية، وفي بعض الحرية تقيّد.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف: محاولة الاكتمال

وكما ذكرنا سلفًا، فالإنسان ينطوي على نقص، ونقصه ينطوي على شهوات ورغبات ونزعات وهوى، فمن غلب نقصه أو غالبه اكتمل أو كاد، ومن غلبه نقصه أو غالبه ضاع أو كاد، والشهوات جزء أصيل في النفس وأفتنها اشتهاء الحرية، فمن اشتهي الخمر شربها أو اعتصم، ومن اشتهى الأجساد وطأها سِفاحًا أو اعتصم، ومن اشتهى السلطة نافقها أو اعتصم، ومن اشتهى الثروة جمعها سُحتا أو اعتصم، أما عن شهوة واشتهاء الحرية فالأمر أخطر وأعظم.

فالحرية كقيمة وكمفهوم شيء في غاية الأهمية والحساسية، فالخالق أمر مخلوقه الأثير بتعظيم قيمة ومفهوم الحرية، خلقه تواقًا لها وخلقها شهوة ونزعة طبيعية بداخله، ولكنّ إرادة الخالق في مخلوقه أن تكون حريته مقيّدة بعبوديته له أو بالأحرى نابعة من عبوديته له، فإن نجح الإنسان في ضبط تلك المعادلة فهي المفازة والرضا، وإن انحلّ العِقد وانفك الرباط فهو الخسران والسخط.

كانت خطيئة إبليس الكبرى هي التمرُّد، تمرَّدَ على أمر خالقه ولم يجد في نفسه حرجًا من جداله ومقارعته بالرأي، ربما كان المحرّك الأول للتمرّد هو الكِبر والغرور، ولكنَّ التمرّد في أصله هو حرية تمادت واستطالت حتى صارت صدامًا وهدمًا لثوابت، فإحساس إبليس بنفسه وبأهميته ومكانته قد غذّى إحساسه بحريته وأنساه اقترانها بعبوديته لخالقه ودفعه إلى التمرّد، وهو ما أدّى لطرده من رحمة الله وإعلانه رجيمًا عدوًّا لله وعدوًّا لمخلوقه الأثير الذي تسبّب في هذا العداء.

ولمّا أعلن إبليس الحرب على الله وعلى الإنسان، كانت الغاية الرئيسية من تلك الحرب هي الوقيعة، إفساد العلاقة بين الخالق ومخلوقه الذى فضّله عليه، وإثبات أنَّ: هذا الذي فضلته علىّ سيحاربك ويبارزك ويتمرّد عليك كما فعلت أنا فطردتني من رحمتك، فلا هو خيرٌ مني ولا أنت كنت محقًّا حين فضّلته ولا أنا كنت مخطئًا حين عارضتك، وقرر إبليس بذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق تلك الغاية، فهي أصل عقدته ومأساته، فهو يتوهّم أنه إن نال غايته فقد أثبت لخالقه أنه ظُلِم، وأثبت له أن الإنسان لم يكن يستحق كل هذا التفضيل وكل هذه الفرص، وأثبت للإنسان أنه أقل منه وأضعف، وأثبت لنفسه أحقيتها في الخيلاء والزهو، وانتقم لنفسه من غريمه فضيّعه وهوّنه عند خالقه مثلما تسبب الإنسان في ضياعه وهوانه على خالقه في البداية.

التمرّد في أصله هو حرية تمادت واستطالت حتى صارت صدامًا وهدمًا لثوابت، فإحساس إبليس بنفسه وبأهميته ومكانته قد غذّى إحساسه بحريته

فمَن أشقى مِن إبليس ومَن أضيعَ مِنه؟ علِمَ يقينا أنه خرج إلى الأبد من رحمة خالقه فأبى إلا أن يُخرِج الجميع من تلك الرحمة، فلا هو حاول استدراك خطأه أو الندم عليه علّه يدرك بعض ما فاته، ولا هو ترك الإنسان يتمتع بالقرب والرضا.. قرر أن يحرق كل السُفُن ويفجُر في العداء ويغالي في الاستعلاء، نصّب نفسه ندّا لخالقه ومناطحًا لإرادته ومفسدًا لغاياته، وكانت وسيلته استخدام طبيعته وقدراته في الإغواء والوسوسة من طرف خفي.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف: أصل الانفصام

فخاخ إبليس ومداخله على الإنسان أكثر من أن تُعدّ، فهو يرضى من الإنسان بأي شيء مهما صَغُر طالما كان ضد إرادة خالقه، فحتى اللمم وصغار الذنوب تعتبر بداية الطريق المؤدى لذات الهدف المراد، الشيء المهم حقا هو الاستمرارية، فإن استفاق الإنسان في منتصف الطريق أو حتى قبل آخره بخطوة واحدة وندم ورجع إلى خالقه تائبًا فإنه بذلك قد أحبط عمل وجهد إبليس كاملًا، وهي أكبر طامّة يمكن أن تحدث له، والسبيل إلى استمرارية العصيان هي الغفلة والكِبر، فالكِبر من الخطايا المحببة لإبليس فتاريخها معه كبير، فبالكِبر عصى وبالكِبر تطاول وبالكِبر رسم طريقه وغايته .

فالإنسان المدرك لحجمه الحقيقي وضآلته إلى خالقه سيعصي وسيخطئ ولكنه سيعود، أما من استكبر فسيُغفِلُه كبره عن العودة، وتنهاه خيلاؤه عن التوبة، فقد زُيّن إليه ما هو قائم عليه وزُيّن إليه رأيه واتّبع هواه وكان أمره فُرُطًا.

والطريق إلى زرع الكِبر في نفس الإنسان يحتاج عملًا حثيثًا خبيثًا، فإن إبليس يزيّن للإنسان الخطايا من خلال الفضائل، فالكرامة والاعتزاز بالنفس والاعتداد بالرأي هم مدخل الكِبر والغرور، الصدق والصراحة وعدم المواربة هم مدخل الغلظة والفظاظة، الشجاعة والإقدام هم مدخل التهوّر والرعونة، طِيب اللسان وحسن التعامل هم مدخل النفاق والتملّق، والحرية هي مدخل التمرّد..

فكل الفضائل والمكارم إن ضُبِطت بميزان دقيق حساس فقد أفلح من ضبطها، وإن وقعت فيها المبالغة والإفراط تتحول إلى سوءات ونواقص وخطايا، والميزان مرهون بالالتزام والوعي والاستدراك، ومرهون باستيعاب معنى العبودية للخالق والتقيّد الصارم بها، فإذا اختلّ معنى العبودية فقد اختلّ الميزان واختلّ معه كل معنى آخر.

لمّا أعلن إبليس الحرب على الله وعلى الإنسان، كانت الغاية الرئيسية من تلك الحرب هي الوقيعة، إفساد العلاقة بين الخالق ومخلوقه الذى فضّله عليه

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف

وعند التدقيق، نجد أن الكِبر والتمرّد هما أعظم الزلات وأسحق الهوّات المؤدية إلى الضياع المطلق، ونجد أن الارتباط بينهما وثيق، فلن يشعر بالكِبر من لا يشعر بحريته، فلابد أن تتغذى النفس جيدًا بإحساس الحرية حتى تتشبع فتصل إلى إحساس العزة والاعتداد ثم يتسرب إليها الكِبر، خطوة تتلوها خطوة بأناة وروِيّة وخبث، وإذا وُجد الكِبر وُجد الجدال واستغلقت العقول واحمرّت الأنوف ووُلد التمرّد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نظام سياسي.. نظام ثقافي

الأنا العليا.. استبداد الحداثة