28-نوفمبر-2015

خريطة الإمبراطورية البريطانية 1907م

التالي هو ترجمة مقال لـ"أنطوانيت بيرتُن" في مجلة فورين أفيرز، عن ما تراه أسطورة استقرار الإمبراطورية البريطانية، وكيف يشوه ذلك التاريخ الحقيقي للإمبراطورية وصراعاتها في الداخل والخارج

___

دأب المؤرخون منذ العصر الرومانيّ على الأقلّ على سرد حكاية عن الإمبراطوريّة مستخدمين سرديّات كبرى تتبع مسارًا من صعود القوّة وأفولها، بحيث تسير الإمبراطورية وفق هذه السرديّات في مراحل من الصعود التدريجيّ تتبعه مراحل من الضعف والانحدار والسقوط. مثل هذه السرديّات موجودة بكثرة في تواريخ الإمبراطورية البريطانية بالتحديد التي تستدعي مثالَ سقوط الإمبراطورية الرومانيّة لحبْكِ سردية ميلودرامية تمتد من مرحلة العظمة في البدايات وتنتهي تدريجيًا بالهزيمة الفادحة، وذلك عبر قرونٍ من حكم هذه الإمبراطورية.

كان قادة الإمبراطورية البريطانية بعيدين كل البعد من أن يكونوا أصحاب سلطة تنعم بالاستقرار والنظام

لكنّ هذه السرديّة ليست إلا مجرّد خرافة، فليس ثمّة صعود عظيم، وليس ثمةَ مرحلة كانت فيها القوّة الإمبريالية ناجحةً من دون أيّ منازع. ففي تمظهرها الحديث لم تحظ الإمبراطورية البريطانيّة إلا بنجاحات متقطّعة ولاسيّما عند النظر إلى امتدادها الجغرافيّ الواسع الذي قامت عليه منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن الذي تلاه. ولا يجدر بالمؤرخين بناءً على ما قامت به الإمبراطورية البريطانية من تصدٍّ لحالات العصيان والتمرّد وإنهاء الإضرابات وقمع المعارضة السياسية أن يفترضوا بأنّها كانت قد أحكمت سيطرتها المطلقة على المجال الاجتماعي والسياسيّ في مستعمراتها.

لقد كانت الإمبراطورية البريطانية في واقع الأمر لا تكاد تنتهي من معضلة تؤرّقها إلا ودخلت في أخرى، ولا يخفى على أحدٍ ما كان يمثّله شخصٌ مثل غاندي أو جماعة الأخوية الجمهورية الإيرلنديّة (IRB) من متاعب للإمبراطورية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، في داخل بريطانيا وخارجها. ولكنّ مؤرخي الإمبراطورية البريطانية يجنحون عادة إلى التقليل من مركزيّة هذه العوائق في تأريخهم، وحتّى حين يتحدّثون عن دور هؤلاء المنشقين في تفتيت الإمبراطورية وإنهائها، فإنّهم قلّما يعترفون بأنّ القلاقل كانت سمة سادت الفترة الإمبريالية أكثر مما حصل من توسع وهيمنة.

لقد كان قادة الإمبراطورية البريطانية بعيدين كل البعد من أن يكونوا أصحاب سلطة تنعم بالاستقرار والنظام، وبالكاد تمكّنوا خلال القرن التاسع عشر من التعامل مع الاضطراب الذي تولّد في مواجهة الإمبريالية واحتواء حالة الرفض المعادية للاستعمار في أشدّ حالاتها "في الداخل". لقد وجد المسؤولون أنفسهم وجهًا لوجه وبشكل مستمر مع سوء إدارتهم هم، وذلك في أداء الإمبراطورية من ناحية، وفي الكوارث التي اندلعت في أرجائها باطّراد. ويحسن بالمؤرخين أن يتوقفوا عن النظر إلى الإمبراطورية بمعايير الصعود والسقوط وأن يتخذوا موقفًا ناقدًا يشكّك في حتميّة السلطة الإمبريالية وهيمنتها التي لا تقهر.

ففي المعارك التي نشبت في أماكن مختلفة من الإمبراطورية وفي الأسواق التي اعتمدت على تجارة الاستعمار، وفي عالم السياسة عبر الوطنية، كان الخصوم لا يتوقّفون عن تحدّي الصورة المتخيّلة لفترة السلام البريطاني (Pax Britannica) في القرن التاسع عشر (1815-1914). إن من شهدَ بعض وقائع الإمبريالية البريطانية المعاصرة، مستعمَرًا كان أم مستعمِرًا، من السكان الأصليين أو مستوطِنًا، قد يعرف ما اجتمع على هذه الإمبراطورية من مقاومة واضطراب، وكانت هذه الحالة سمة الحياة اليومية فيها. أمّا الذين يعيشون على أطلال الإمبراطورية البريطانية اليوم وما يزالون يُلهِمُهم الكثيرُ من إرثها فإنّ عليهم أن يفهموا بشكل أفضل كيف ولمَ كان الاضطراب في الإمبراطورية جليًّا لأولئك الذين كانوا يرزحون تحت حكمها.

أساطير مغرية

هنالك من يرى أنّ نهاية الاستعمار قد بدأت عام 1776 حين اندلعت الثورة الأمريكية، وانتشرت معها الحساسية المناهضة للاستعمار في ضمير التاريخ العالمي. ولكن حتّى في أوج ازدهار الإمبريالية البريطانية، والتي تحققت في الفترة التالية للثورة، فإنّ جهود التخلص من الاستعمار لم تكن مجرّد اندفاعات دراماتيكية طارئة. ففي القرن الذي يمتدّ بين نشوب الحرب الأفغانية الأولى عام 1839 وبزوغ الحركة الوطنية على يد غاندي في ثلاثينيات القرن العشرين، كان رعاة الإمبراطورية الساخطون يعبرون عن سخطهم هذا عبر العالم، من إيرلندا إلى كندا ومن الهند إلى أفريقيا حتّى أستراليا، وذلك رفضًا للوجود العسكري البريطاني ونظام السوق الرأسمالي الإمبريالي الذي جلبه معه.

وخلال تلك الفترة ظهرت المقاومة المسلحة وصارت ظاهرة منتشرة، ومن أمثلة ذلك التمرّد الهندي الذي حدث عام 1857 والحرب الإنجليزية الزولوية في جنوب أفريقيا عام 1870، وهي من أكثر الأمثلة شهرة على المقاومة المسلحة في تلك الفترة. ولكن حتى بعد أن ظهر أنّ هذه المعارك قد انتهت وأنّ البريطانيين قد استعادوا السيطرة، فإنّ الإمبراطورية عانت كثيرًا من أجل الحفاظ على السلم وفرض النظام من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد استلزم السيطرة على الصين أن يخوض البريطانيون حربين، وثلاثة حروب لفرض الاستقرار في أفغانستان، وتسعة حروب في أفريقيا لإخضاع كلّ "كافر" (كانت تستخدم هذه الكلمة حرفيًا كما هي في العربيّة في إشارة عنصريّة إلى السود في جنوب أفريقيا) قبل العام 1900.

وإن كان يمكن القول إن البريطانيين قد ظفروا في تلك الحروب، غير أنّه لم يتسنّ لهم ذلك إلا بعد أن فشلوا بشكل ذريع في الكثير من الحملات التي شنّوها. كما بقي الانتصار واهيًا والحفاظ عليه صعبًا في الأطراف الممتدة للإمبراطوريّة. ففي نيوزلندا خاض البريطانيون عدة حروب في ستينيات القرن التاسع عشر ضد الماوريين، واندلعت حروب أخرى بين الإمبراطورية البريطانية والآشانتية في غرب أفريقيا خلال القرن التاسع عشر، وكذا الأمر في آسيا الوسطى حيث خاضت المملكة المتحدة حربين في أفغانستان، وهذا يعني أنّ شيئًا ما كان دومًا يطرأ لينغّص على ذلك التفوّق الإمبريالي ويقطعه.

إنّ تلك الثورات والحروب واسعة النطاق قد رسّخت حالة من انعدام الأمن في الإمبريالية البريطانية، كما نجح في ذلك أيضًا ما حدث من اندلاع العديد من المظاهرات المحلية التي لا ينطبق وصف المعركة عليها. ففي الشمال الغربي من الهند مثلًا كانت القلاقل هي الحالة السائدة لا السلم. لقد كان ذلك النوع من حرب العصابات يعني أنّ الانتصار العسكري لا يشكّل سوى نجاح جزئي وأنّ التنازع على الأرض لن يتوقّف، ونادرًا ما سادَ الهدوءُ الموقف، وصار الحفاظ على الأمن مهمّة لا تتوقّف.

السرديّة السائدة لتاريخ الإمبريالية البريطانية بالتحديد لا تترك أيّ مجال لفهم العنف المستمر في أماكن مثل الفلوجة أو الرمادي

كما أثرت المعارضة على الحياة الاقتصادية في الإمبراطورية، فقد كانت القوة الاقتصادية الإمبراطورية في حالة من التأرجح الدائم. لقد كانت مواقع الاستثمار الرأسمالي والمتمثلة بالمصانع وسكك الحديد- والتي مكنت من تحويل المواد الخام إلى أرباح وخلقت اقتصادياتِ سوق متشعبة حول العالم- شبيهة بالثكنات والحاميات العسكرية من ناحية أنها كثيرًا ما تكون عرضة للاستهداف بطريقة أو بأخرى. فالإضرابات، وحملات المقاطعة، وترك العمل بالكليّة كانت دائمًا تعطل سير العمل في المصالح الاقتصادية للإمبراطورية ويهدّد نظامه في المصانع والمعامل، وذلك حين يعبّر الناس عن رفضهم لأن يندمجوا في الأشكال السائدة للاقتصاد السياسي، مما يعطل في المقابل سير الأعمال اليومية في الإمبراطورية بطبيعة الحال.

هنالك أشكال أخرى من التمرد التي أقلقت مسؤولي الإمبراطورية، سواء العاملين في تلك المناطق أو وزارة المستعمرات في لندن. فمنذ خمسينيات القرن التاسع عشر ازدادت الانتفاضات ومخططات التمرد المسلح والاضطرابات، فنُفّذت اغتيالات وتفجيرات وحيكت مخططات ضد الإمبراطورية، وكانت هذه العمليات سمة بارزة في النشاط المناهض للاستعمار في أواخر العهد الفكتوري، من دبلين حيث قام الجمهوريون الإيرلنديون باغتيال مسؤولين بريطانيين بارزين، إلى دلهي حيث صارت معامل تصنيع القنابل تنتشر في الضواحي، وفي السودان حيث أقام محمّد أحمد المهدي دولة إسلامية لأكثر من عقد بعدما حرّر الخرطوم عام 1885. لم تكن تلك الاضطرابات كافية في ذاتها لإسقاط الإمبراطورية، ولكنّها أقلقت المسؤولين فيها ووكلاءها والمتعاطفين معها ممن كانوا يحرصون على فرض النظام والأمن.

هذا التداخل بين سوء الإدارة الإمبريالية والمظاهرات المناهضة لها يوضّح أنّ تاريخ الإمبراطورية البريطانية ليس تاريخًا يمتدّ في منحنى من الصعود الذي يؤول إلى السقوط، ولكنّه تاريخ من المناوشات والتدافع والسقطات وفقد السيطرة واستعادتها. وسواء كان الأمر في وديان أفغانستان السحيقة أو في حقول جنوب أفريقيا الذهبية أو في معامل تصنيع القنابل في البنغال، فإنّ الشعوب التي كانت تحت الاستعمار الإمبريالي قد رفضت على الاستمرار الرضوخ أو الاستكانة في وجه السطوة العسكرية والاقتصادية والسياسية للمستعمِر. ومع هذا فإنّ ثمة اعتقادًا سائدًا حول "نجاحات" الإمبريالية البريطانية وهو اعتقاد نجده في العديد من الكتب التاريخية التي تناولت تاريخ الإمبراطورية كما نلمسه في الانطباعات العامّة حول الصورة الزاهية للعالم في عصر الإمبريالية البريطانية.

إن استمرار هذه الأساطير التي تفترض حالة من الاستقرار العام في زمن الإمبراطورية يحمل آثارًا خطيرة اليوم. إنّ نموذج الصعود والأفول يُسقط من الاعتبار عمليات العنف اليوميّ التي وظّفت في بناء الإمبراطورية، كما أن السرديّة السائدة لتاريخ الإمبريالية البريطانية بالتحديد لا تترك أيّ مجال لفهم العنف المستمر في أماكن مثل الفلوجة أو الرمادي. ثم إنّ تناول النجاح الإمبريالي كجزء من صورة رومانسيّة تقليدية عن الصعود والتراجع تشتمل على عنصر إغراء كفيل بحجب الحقيقة: حقيقةِ أنّ الإمبراطورية تعيش في صراع يوميّ لا يتوقّف، الرابحون فيه قلّة والخسائر فيه فادحة تتجاوز في أثرها تلك المكاسب حتى لو كانت طويلة المدى. إنّ فهم هذه الحقيقة يتطلب دراسة دقيقة تكشف لنا كيف تسقط الإمبراطوريات ولماذا، وذلك باعتبار حالة ضعفها على الأرض وعدم القبول بالمسلّمات المتعلقة بنجاحها والموجودة في كتب التاريخ التي كتبها المستعمِر.

__

أنطوانيت بيرتُن: أستاذة التاريخ في جامعة إلينوي في الولايات المتحدة ومؤلفة كتاب: (The Trouble with Empire: Challenges to Modern British Imperialism) الصادر عن أكسفورد عام 2015.

المصدر: The Folly of Empire