25-أغسطس-2020

كاريكاتير لـ بيت كرينر/ أستراليا

"أن تعرف وأن لا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملةً، ومع ذلك لا تفتأ تقصّ الأكاذيب مُحكمة البناء، أن تؤمن برأيين في آنٍ واحد وأنت تعرف أنّها لا يجتمعان ومع ذلك تصدق بهما. أن تجهض المنطق بالمنطق، أن ترفض الالتزام بالأخلاق فيما أنت واحد من الداعين إليها".

من خلال هذه الفقرة التي وردت في رواية "1984" للروائيّ البريطانيّ جورج أورويل، يُمكن وصف شكل الجزء الأكبر من سياسة الإمارات العربية المتّحدة ما قبل اتّفاقها وتحالفها مع دولة الاحتلال الإسرائيليّ؛ إدراك الحقيقة وإنكارها والالتفاف عليها لأنّها لا تحقّق مصالحها، على أن تكون سياساتها ما بعد التحالف قائمة على فكرة مفادها أنّها أصبحت تملك حقيقةً خاصّة بها، ستُساعدها دولة الاحتلال بصفتها حليفها الجديد في مواجهة دول المنطقة، لا سيما العرب والفلسطينيين؛ في تعميمها عبر وسائل مُختلفة.

أمّنت فعاليّات الإمارات وأنشطتها ومهرجاناتها وجوائزها الأدبيّة ما يُمكن تسميته "دُخانًا" ثقافيًا يُراد منه ستر أفعالها المشينة محليًّا وعربيًّا على مدار السنة

اشتغلت الإمارات العربيّة المتحدّة طيلة السنوات الماضية على توفير وسائلها هذه من خلال تأسيس آلة دعائية ضخمة لا من أجل هذا التحالف فقط، وإنّما من أجل الدور الذي تلعبهُ عربيًا وإسلاميًا، وهو دور تخريبيّ بامتياز تعمل الآلة التضليلية على تجميله ووضعه ضمن سياقاتٍ مُختلفة عن تلك التي وضعها لنفسه حينما حُدِّدت أهدافه بإعادة صياغة المنطقة بما يتناسب معه تطلّعات القائمين عليه، وهي تطلّعات استبدادية تسعى لفرض واقع ثقافيّ ودينيّ جديد أوكلت مهمّة صناعته إلى منظومة دينية وضعت على رأسها عبد الله بن بيه والحبيب الجفري ومتصوفين آخرين مثل إمام الأزهر أحمد الطيب، رئيس مجلس حكماء المسلمين الذي تمّ تأسيسه لمنافسة الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين.

اقرأ/ي أيضًا: القصص التي ترويها فلسطين

إنّ الواقع الجديد الذي تسعى الإمارات إلى تطبيقه في المنطقة يرمي إلى تفكيك هويّتها وتمييعها وإلغاء العوامل التي تنظمها أيضًا، متوسّلة التخريب والحصار كما في حالة تونس وقطر، وتدبير الثورات المضادّة، مصر وليبيا نموذجًا، بالإضافة إلى دعم الأنظمة الاستبدادية مثل نظام بشّار الأسد الذي أعادت تطبيع علاقاتها معه، بل وقدّمت له عرضًا ماليًّا ضخمًا مقابل مواصلته لحملته العسكرية على محافظة إدلب، فضلًا عن مساهمتها في تأسيس أنظمةٍ عسكرية كما هو الحال في السودان، والنتيجة مُحاولات مستمرّة وجهد دؤوب لوأد الثورات العربية التي تخشاها برفقة الكيان الصهيونيّ، حليف السنوات الماضية سرًّا، والقادمة علانية.

وضعت أبوظبي مُقابل أدوارها التخريبيّة منظومة مترامية الأطراف، هدفها تجميلها وتلميعها، واشتغلت انطلاقًا من هذه الغاية على الاستثمار في كلّ ما يصرف النظر عن انتهاكاتها الحقوقية بحقّ مواطنيها وبقية الشعوب العربية، لا سيما في اليمن الذي تُثير فيه القلاقل وتحرّض فيه فئة معيّنة على الانفصال بهدف الحفاظ على مكاسبها التي حقّقتها منذ الإعلان عن عملية "عاصفة الحزم"، ولعلّ أهمها احتلالها لجزيرة "سُقطرى".

أمام كلّ هذه الأنشطة التخريبية العابرة للحدود، لا بدّ من وجود أنشطة مُختلفة تُقدِّم الإمارات باعتبارها دولة مُتسامحة تحترم حقوق الإنسان، وتضمن لمواطنيها مُختلف الحريّات بما في ذلك حريّة التعبير، الأمر الذي يتنافى تمامًا مع واقعها وسجلّاتها الحقوقية القاتمة. هنا بالضبط تكمنُ وظيفة الأنشطة والفعاليّات والثقافية والمهرجانات الفنيّة والجوائز الأدبيّة التي تٌقيمها وترعاها وتموّلها حكومة أبوظبي ببذخٍ هائل يُراد منه التخلّص من الوعي العام بانتهاكاتها الحقوقية المُتصاعدة في البلاد انطلاقًا من إدراك قيادتها بأنّها إذا أرادت أن تستمرّ في الحكم وتُمارس أدوارها التخريبية في المنطقة، فعليها أن تكون قادرة على زعزعة الإحساس بالواقع، وهو ما فعلتهُ على أكمل وجه.

أمّنت فعاليّات الإمارات وأنشطتها ومهرجاناتها وجوائزها الأدبيّة ما يُمكن تسميته "دُخانًا" ثقافيًا يُراد منه ستر أفعالها المشينة محليًّا وعربيًّا على مدار السنة، منها دون شكّ اتّفاقها وتحالفها الصلب مع الحركة الصهيونية التي استضافت أشدّ أعضائها تطرّفًا ضمن ما يُعرف بـ "مؤتمرات التسامح" التي لا تعبّر عن انفتاح دينيّ أو استيعاب للآخر بقدر ما تسعى من خلالها إلى إظهار نفسها بصفتها مثالًا للانفتاح في المنطقة، بل وعنوانٌ له أيضًا، ومن خلال هذه الادّعاءات تُبرِّر اليوم تحالفها مع الكيان الذي أعاد إلى الواجهة مُجدّدًا الجدل حول حقيقة جوائزها الأدبيّة وأهمّيتها وأهميّة مُقاطعتها ومدى مصداقية رسائلها الثقافية أيضًا.

الجدال غير الجديد والمُتجدِّد جاء هذه المرّة في ظروف مُختلفة تمامًا، لأنّ العلاقة الإماراتيّة – الإسرائيلية ليست إلّا إعلان حربٍ ضدّ الفلسطينيين والعرب الخارجين عن طاعة مشيخة أبوظبي على حد سواء، خصوصًا بعد الحملات التي قادها الذباب الإلكترونيّ وأشباه المثقّفين الإماراتيين والسعوديين، على شاكلة تركي الحمد وغيره، ضد الفلسطينيين بعد إعلان التحالف المشؤوم هذا مُباشرةً تحت عنوان "فلسطين ليست قضيّتي"، والهدف منها كيل الأكاذيب بحقّ هذه القضيّة وشعبها لتبرير أفعال الدولة المارقة وسياساتها التخريبيّة القذرة. واللّافت هنا أنّه في بلادٍ تُعدّ اليوم نموذجًا مُعاصرًا لدولة "الأخ الأكبر" لجهة تدمير الحريّات والمراقبة الدائمة التي تُلغي الحياة الخاصّة للأفراد فيها، لا يُمكن أن تكون هذه الحملات إلّا من صنيعة الدولة نفسها.

والنتيجة أنّ الدولة "المُتسامحة"، والمُنفتحة" التي تموّل وترعى جوائز "الشيخ زايد"، و"سلطان العويس"، و"الجائزة العالمية للرواية العربية" وغيرها، هي ذاتها الدولة التي حملت على عاتقها مُهاجمة الفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في الأعمال الدرامية وحملات الذباب الإلكترونيّ، قبل أن تُكلّل هجماتها هذه بتحالفها مع الكيان الصهيونيّ ضدّ هذا الشّعب. عدا عن أنّها الدولة نفسها التي خطّطت ودبّرت ودعمت الانقلاب على الشرعيّة في مصر، وفعلت الأمر نفسه في ليبيا بتمويلها لميليشيات الانقلابيّ خلفية حفتر.

بالإضافة إلى أنّها الدولة التي تشتغل على تفكيك اليمن من خلال دعمها لما يسمّى بـ "المجلس الانتقاليّ الجنوبيّ" الانفصاليّ، واحتلالها لجزيرة "سقطرى" وغيرها من الممارسات التخريبية، ناهيك عن سوريا التي أعادت تطبيع علاقاتها مع نظام بشّار الأسد الذي قتل ونكّل واعتقل وهجّر ملايين السوريين، وخصّصت له دعمًا مستمرًّا بل وعرضت عليه مواصلة حملته العسكرية علية محافظة إدلب مُقابل 3 مليارات دولار، بالإضافة إلى أنّها ووفقًا لصحيفة الغارديان وسعد الجبري، دفعت وليّ العهد السعوديّ محمّد بن سلمان إلى طلب التدخل العسكريّ الروسيّ في سورية لصالح نظام الأسد سنة 2015.

إذًا، سجلّات حقوقية وإنسانية قاتمة، وتضارب بين دعم وتمويل أبو ظبي للمهرجانات والفعاليات الثقافية والجوائز الأدبية وما يُعرف بـ"مؤتمرات التسامح"، وعدم تسامحها مع معارضيها داخل الإمارات وخارجها، وفقًأ لما أشار إليه خطاب وقّعه أكثر من 50 مثقّف ومنظّمة غير حكومية وأخرى حقوقية دولية خلال مهرجان "هاي أبو ظبي" الذي جرت رياحه على العكس تمامًا ممّا تشتهي مشيخة أبناء زايد بعد ذلك الخطاب الذي أكّد موقّعوه، وجميعهم مشاركين في المهرجان، استمرار السلطات بتصدير صورة إيجابية مضلّلة للعالم من خلال هذه الفعاليات التي تسعى عبرها إلى إخفاء انتهاكاتها.

ليست جوائز الإمارات الأدبيّة ببذخها الكبير إلّا محاولة لغسل الدماء العالقة بأيدي القائمين عليها ومموّليها

وإذا أضفنا أدوارها وممارساتها التخريبية في المنطقة، لن تكون جوائزها الأدبيّة ببذخها ذاك إلّا مُحاولة لغسل الدماء من على يدي القائمين عليها ومموّليها، وتخدير الآخرين/ المثقّفين وخداع الرأي العام وصرف نظره عمّا تفعلهُ، الأمر الذي يجعل منها جوائز عديمة الأهميّة بلا قيمة ولا رسائل ثقافية، وعار على المثقّف العربيّ الحر الذي يؤمن بقضية فلسطين التي تحاربها الإمارات، وحقّ الشعوب العربية في تقرير مصيرها التي تسعى الإمارات جاهدةً إلى مصادرته، وغيرها من القضايا التي تعني كلّ مثقّف حرّ، وتسعى الدولة المارقة إلى التخلّص منها.

اقرأ/ي أيضًا: تحالف الشرّ

عند هذا الحدّ، وبعد كلّ التخريب الذي تمارسه الإمارات، لا يُمكن التعامل مع قبول جوائزها بعد الآن إلّا باعتباره شراكة في غسل الدماء التي تلطّخت بها أيدي حكّامها في سوريا وليبيا واليمن وغيرها، ومساهمة في تلميع صورتها وسجّلاتها الحقوقية القاتمة، ممّا يعني أنّها لا تُحتسب إلّا في باب خيانة المبادئ الإنسانيّة. إنّ الأمر ليس قضية جوائز أو ما شابه، ولكنّ دولة على هذا القدر من التخريب لا رسائل ثقافية لجوائزها، ولا ثقافة لها إلّا ثقافة الدم والتخريب والشيطنة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اتفاق الإمارات وإسرائيل: في معنى الإعلان عن المعلن

البوكر.. دعوة إلى المراجعة