أحدث الإعلان الدستوري، الذي سيشكل الإطار القانوني لسوريا خلال السنوات الخمس المقبلة، موجة واسعة من الجدل والانقسام. فبينما يرى مؤيدوه أنه يمثل خطوة نحو إعادة هيكلة الدولة وإرساء أسس تحول سياسي جديد، يعتقد معارضوه أنه ليس سوى إعادة إنتاج للنظام القديم بواجهة مختلفة.
هذا التباين في المواقف انعكس في النقاشات المحتدمة داخل المجتمع السوري، حيث ينظر البعض بتفاؤل إلى المرحلة المقبلة، معتبرين أنها تستحق منح السلطات فرصة لتنفيذ الإصلاحات، في حين يشكك آخرون في جدية التغيير، مشيرين إلى افتقار الإعلان لآليات واضحة تضمن تطبيقه بفعالية.
هذا التباين في المواقف انعكس في النقاشات المحتدمة داخل المجتمع السوري
صلاحيات الرئيس
واجه الإعلان الدستوري انتقادات حادة، خاصة فيما يتعلق بالصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس الجمهورية، إذ يمتلك سلطة تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، بينما يُنتخب الثلثان المتبقيان عبر هيئات تقع تحت إشرافه، مما يثير مخاوف بشأن استقلالية المجلس وقدرته على ممارسة دوره التشريعي بحرية.
إلى جانب ذلك، يتمتع الرئيس بسلطة واسعة في العملية التشريعية، حيث يملك حق اقتراح القوانين، الاعتراض عليها، وإصدارها، إضافة إلى تعيين وإقالة الوزراء وكبار المسؤولين. كما تمنحه المادة 41 صلاحية إعلان حالة الطوارئ بعد الحصول على موافقة مجلس الأمن القومي، وهو مجلس يشرف على تعيين أعضائه بنفسه، ما يمنحه سلطات استثنائية دون قيود واضحة.
وفي هذا السياق، يؤكد المحامي عمار الشيخ بكري في حديث لموقع "ألترا صوت"، أن الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية في الإعلان الدستوري الجديد لا تصل إلى مستوى السلطات الواسعة التي كان يتمتع بها وفق دستور 2012، مشيرًا إلى أن الرئيس لم يعد يمتلك سلطة التشريع، كما فقد رئاسته لمجلس القضاء الأعلى، ولم يعد بإمكانه إصدار قانون الطوارئ أو تمديده دون العودة إلى مجلس الأمن القومي والسلطة التشريعية.
وأضاف الشيخ بكري أن الإشكالية الحقيقية التي يثيرها الإعلان الدستوري تتعلق بآلية تشكيل السلطة التشريعية، إذ لا يزال الرئيس يحتفظ بصلاحية تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب بشكل مباشر، بينما يتم اختيار الثلثين الآخرين من خلال هيئات تخضع لإشرافه. واعتبر أن هذا "الأمر يثير تساؤلات حول مدى استقلالية المجلس التشريعي، حيث يبقى جزء كبير من التوازن المؤسسي معتمدًا على شخصية الرئيس وضميره في إدارة هذه الصلاحيات".
تعديل الإعلان الدستوري
أما فيما يخص الجدل القانوني المرتبط بتعديل بنود الإعلان الدستوري، الذي لا يمكن إجراؤه إلا بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب، ومع ذلك، فإن أي تعديل لا يُطرح للنقاش إلا بمبادرة من الرئيس، مما يعزز هيمنته على التشريعات.
ورغم تأكيد الإعلان الدستوري على مبدأ الفصل بين السلطات، يظل الرئيس ممسكًا بزمام السلطة التنفيذية بشكل شبه مطلق، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مدى توازن الصلاحيات في المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق، يؤكد المحامي، مصطفى كليب، في حديثه لـ"الترا سوريا" أن المادة 50 تشير إلى إمكانية تعديل الإعلان الدستوري خلال المرحلة الانتقالية، لكنها "تشترط موافقة ثلثي مجلس الشعب بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية".
وشدد كليب على أن "هذا التعديل يبقى مرهونًا بإرادة الرئيس، إذ يختار ثلث أعضاء المجلس، فيما تنتخب الهيئات الفرعية التي يشكلها الثلثين الآخرين وفق المادة 24"، وهو الأمر الذي "يثير تساؤلات حول مدى استقلالية المجلس في اتخاذ قراراته، خاصة أن تشكيله مرتبط بالرئيس".
وبحسب كليب، فإنه "وفق هذه الآلية نستطيع القول إن مجلس الشعب بشكل أو بآخر معين تعيينًا أساسًا من قبل الرئيس"، وبالتالي "لن يستطيع المجلس أن يعدل الإعلان من دون أن يتم اقتراح ذلك من الرئيس".
الإسلام كمصدر أساسي للتشريع
فيما يتعلق بالاعتماد على الفقه الإسلامي كمصدر أساسي للتشريع، يؤكد المحامي كليب، أن ذلك يؤثر على القوانين المدنية والدستورية، لكنه، ينوه إلى أنه "ليس المصدر الوحيد، كما كان الحال في الدساتير السورية السابقة ومعظم دساتير الدول الإسلامية".
يرى كليب أن الفقه الإسلامي يمثل "مفهومًا واسعًا يشمل اجتهادات الفقهاء، وقد يتماشى مع نصوص القرآن والسنة أو يتجاوزها"، مشيرًا إلى أن "رغم تبنّي سوريا لهذا الإطار، فإنها تجاوزت بعض العقوبات الجسدية وفضّلت الاعتماد على تشريعات مدنية".
غياب الاجماع على الإعلان الدستوري
في المقابل، يرى الناشط، حيان حيروكة، في حديثه لموقع "الترا سوريا" أن الهدف من وضع الدستور والقوانين المنبثقة يكون لـ"جمع القوى الوطنية لبناء دولة العدالة والحرية، متجاوزًا إرث الدكتاتورية والحكم الشمولي"، لافتًا إلى أن ما هو أهم من الإعلان الدستوري يتمثل بـ"القبول العام"، معتبرًا أنه "لا فائدة من تدوال عملة لا تلقى القبول العام في الأسواق".
وفي هذا الإطار، يلفت حيروكة، إلى ردود الفعل الأولية، التي تمثلت برفض الكرد والدروز للإعلان الدستوري، موضحًا أن الإطار العام للإعلان الدستوري هو "ما يهدد بانهيار الاتفاق الموقع من أيام قليلة مع الإدارة الذاتية وغياب الدروز عن المشهد السياسي"، مشددًا على أن "المشهد السوري لم يصل بعد لمرحلة توافق سياسي وعقد اجتماعي وإجراءات وطنية تجعلنا في بيئة مناسبة لإعلان دستوري لا يؤدي الغرض المطلوب منه".
إعادة انتاج الاستبداد
أعرب مجلس سوريا الديمقراطية، المظلة السياسية لـقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، عن رفضه لمسودة الإعلان الدستوري الجديد، معتبرًا أنها تتناقض مع الاتفاقات الموقعة مع الحكومة السورية وتشكل تراجعًا عن التفاهمات السابقة.
وأكد المجلس أن المسودة المطروحة تعيد إنتاج الحكم الاستبدادي بصيغة جديدة، حيث تعزز المركزية في إدارة الدولة وتمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة. كما انتقد القيود المفروضة على العمل السياسي، بما في ذلك تجميد تشكيل الأحزاب وغياب آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية، محذرًا من أن هذه العوامل تعقد الأزمة السياسية والوطنية بدلًا من حلها.
خطو نحو طي صفحة عقودٍ من المظلومية والاضطهاد
وعن مسار العدالة الانتقالية، اعتبر المحامي عمار الشيخ بكري في حديثه لـ"ألترا صوت" أن تجريم "الأسدية" يمثل خطوة أساسية في طي صفحة عقودٍ من المظلومية والاضطهاد التي عانى منها عموم الشعب السوري. مشددًا على أن الاعتراف بهذه الجرائم وتجريم إنكارها لا يحمي الضحايا فحسب، بل يمنع استمرار شعورهم بالاضطهاد والظلم، مما قد يدفع بعضهم إلى استيفاء حقوقهم بأنفسهم أو حتى تشكيل مجموعات عسكرية لحماية أنفسهم، نتيجة فقدانهم الثقة بالدولة. ويضيف الشيخ بكري أن هذا التجريم يُعد تأكيدًا رسميًا من الدولة على ما تعرض له الضحايا من انتهاكات جسيمة، مما يسهم في تعزيز الشعور بالعدالة ويحدّ من أي اضطرابات مستقبلية.
ويتابع الشيخ بكري أن هذه الخطوة لا تقتصر على حماية الضحايا، بل تسهم أيضًا في إغلاق هذا الملف نهائيًا، مما يمنع العودة إليه للنقاش أو التفسير أو حتى الدفاع عنه، وهو ما يقطع الطريق أمام أي محاولات لإعادة تبرير تلك الجرائم أو إضفاء الشرعية عليها. مؤكدًا أن هذا التجريم يرسّخ وعيًا مجتمعيًا بأن ما حدث في سوريا أصبح من المحرمات المطلقة، ولا يمكن القبول به أو التفكير في تكراره تحت أي ظرف.
الخطوات المستقبلية
أكد الشيخ بكري لـ"الترا صوت"، أن المرحلة المقبلة تتطلب خطوات أساسية لضمان تطبيق الإعلان الدستوري الجديد، مشيرًا إلى أن أولويات المرحلة تبدأ بتشكيل مجلس شعب يمارس دوره التشريعي بفعالية، حيث لا يمكن تحقيق استقرار دستوري في أي دولة دون وجود سلطات ثلاث متوازنة تعمل وفق أسس واضحة.
موضحًا أن المهمة الأكبر ستقع على عاتق السلطة التشريعية، التي سيكون عليها العمل على تعديل القوانين القائمة أو إلغاء بعضها لتتوافق مع متطلبات المرحلة الجديدة والإعلان الدستوري. كما ستحتاج بعض المبادئ التي نص عليها الإعلان إلى تشريعات تفصيلية لوضعها موضع التنفيذ، إذ أن النصوص الدستورية وحدها لا تكفي لتفعيل القواعد القانونية دون إصدار تشريعات تكميلية.
وضرب مثالًا على ذلك بقضية تجريم "الأسدية"، مشيرًا إلى أن مجرد النص على هذا التجريم في الدستور لا يكفي لجعله نافذًا، حيث لا يمكن للقضاء الجزائي الاعتماد على القواعد الدستورية لإدانة الأفعال، ما لم يتم تعديل قانون العقوبات ليشمل هذا التجريم بشكل واضح ومحدد.
وأضاف أن هناك العديد من القوانين التي ستحتاج إلى إعادة صياغة أو تعديل، بما يضمن انسجامها مع المبادئ الجديدة التي أقرها الإعلان الدستوري، مشددًا على أن هذه التعديلات ستكون جوهرية في بناء نظام قانوني متكامل يعكس التحولات السياسية والدستورية في البلاد.