06-يناير-2025
سوريا

خلال السنوات العشر الماضية، شكّل الإعلام الحربي السمة الغالبة على العمل الصحفي في سوريا. فقد حوّل نظام الأسد المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة إلى ناطق عسكري، ومروّج لدعاية الحرب على الإرهاب وملاحقة المخربين. وامتد هذا التأثير إلى الإعلام الموازي، أو ما يُعرف بإعلام "المؤثرين"، حيث استُخدم أي نشاط إعلامي فردي على وسائل التواصل لدعم سردية النظام، بما في ذلك دعوات لمؤثرين عرب وأجانب لزيارة سوريا تحت حكم الأسد، وتصوير الحياة "الآمنة" التي يعيشها من هم تحت سلطته.

الآن، وبعد سقوط نظام الأسد، نشرت محافظة دمشق عبر قناتها على "تلغرام" صورًا للقاء المحافظ الجديد (ماهر مروان) مع مجموعة من المؤثرين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي لنقاش دورهم في مكافحة الشائعات. سبق ذلك لقاء جمع قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع بمجموعة من المؤثرين العرب والإعلاميين في قصر الشعب، بجلسة استمرت لساعات.

تسيطر الفوضى الإعلامية على المشهد السوري، والشائعات تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحتى وسائل الإعلام، والمصادر الرسمية ما زالت صعبة التحديد

سوريا، التي كان يُعد فيها العمل الإعلامي تهمة، والتصوير فيها بحاجة لموافقات أمنية نادرًا ما تُمنح، أصبحت اليوم وجهة للمؤثرين والصحفيين والمؤسسات الإعلامية على المستويين المحلي والدولي.

وبالرغم من هذا الانفتاح، إلا أن الفوضى الإعلامية تسيطر على المشهد، والشائعات تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحتى وسائل الإعلام. كما أن المصادر الرسمية لا تزال صعبة التحديد، في ظل غياب ناطق رسمي باسم الحكومة أو القيادة السورية الجديدة.

أين الكوادر الصحفية؟

مع الانفراج الضيق على العمل الإعلامي السوري بعد عام 2005، شهدت جامعة دمشق تزايدًا في الاهتمام بدراسة الصحافة والإعلام. وأصبح القسم، الذي كان يتبع لكلية الآداب، أكثر تنوعًا بعد أن كان حكراً على البعثيين أو المضمون ولاؤهم لحكم الأسد. تُوّج هذا الاهتمام بإنشاء قسم الإعلام بنظام التعليم المفتوح، وتحويل قسم الصحافة لاحقًا إلى كلية مستقلة، مع تجهيزها باستوديو تدريبي افتُتح قبيل اندلاع الثورة بأيام.

ولكن هذا الانفراج لم يدم طويلاً، حيث أُغلقت الأبواب أمام جيل كامل من الصحفيين والإعلاميين، الذين كانوا جزءًا من الحراك الطلابي في جامعة دمشق. تعرّض العديد منهم للاعتقالات داخل الحرم الجامعي، بينما واجه المدرسون والإداريون تهديدات مباشرة. كما تم تسليم الاستوديو التدريبي لقناة "الإخبارية السورية"، بعد استهداف استوديوهاتها بريف دمشق. دفع ذلك الكثير من طلاب كلية الإعلام -الوحيدة في سوريا- للهرب خارج البلاد أو التخفي.

أحد أبرز عيوب وسائل الإعلام التقليدية هو قلة مرونتها مقارنةً بوسائل التواصل الاجتماعي. لكنها في المقابل أكثر انضباطًا ومهنية

في ظل الاهتمام الدولي بالشأن السوري حينها، توفرت فرص واسعة لغالبية هؤلاء الصحفيين لبناء مسيرة مهنية في مؤسسات إعلامية عربية ودولية. أما من بقي منهم، فقد أبعده الخوف عن العمل الإعلامي، ليعود المشهد كما كان: إعلام بلون وصوت واحد يتبع السلطة ويقدم رواياتها، بل ويتورط في كثير من الأحيان ليكون شريكًا في آلة القتل.

بين المرونة والمهنية

أحد أبرز عيوب وسائل الإعلام التقليدية هو قلة مرونتها مقارنةً بوسائل التواصل الاجتماعي. لكنها في المقابل أكثر انضباطًا ومهنية، وهو ما نحتاجه عند التعامل مع قضايا حساسة كالمخفيين قسرًا أو ضحايا التعذيب في المعتقلات، أو عند الحديث عن المشاحنات الطائفية أو العرقية في بلاد منهكة.

أما المؤثرون، فيحكم عملهم الإعلامي الموضوع الشائع "الترند"، وغالبًا ما يدفع سباق المشاهدات إلى تجاوز المقبول وتجاهل قواعد العمل الإعلامي، ليصل أحيانًا إلى استثمار المعلومات المضللة.

بعد سقوط النظام، برزت حاجة سوريا لكوادرها الإعلامية من جديد، فعلى الصعيد المعيشي والسياسي لا وجود حتى الآن للتمثيل الشعبي عبر مؤسسات كالبرلمان والنقابات، في ظل فجوة واسعة بين حكومة تصريف الأعمال القائمة، وجمهور اعتاد على متابعة الإعلام الحكومي أو اعتماد صفحات مقربة من أجهزة الدولة كمصدر.

التحديات الإعلامية الحالية

انتقد كثيرون بيان وزارة الإعلام السورية، والذي يدعو الجهات الإعلامية للتنسيق مع الوزارة، البعض رآه تقييداً لحرية الإعلام، وآخرون وجدوا فيه خطوة هامّة لضبط الفوضى الإعلامية في المشهد السوري، تزامن ذلك مع عودة إذاعة دمشق للعمل، في حين لا يزال التلفزيون السوري الرسمي بحالة جمود.

هناك حاجة أساسية لعمل إعلامي واسع يتجه للداخل قبل الخارج، يضمن إتاحة المعلومات الموثوقة، ويقوم بدور الرقابة على الأداء الحكومي

بالعودة للوراء، نرى اعتماد الإدارة الجديدة منذ بدء العمليات ضد نظام الأسد حتى تحرير المدن على  قنوات الـ "تلغرام" كوسيلة إعلامية مباشرة. ورغم مرونتها وقدرتها على الوصول السريع، إلا أن شريحة واسعة من السوريين لم يعتادوا على التعامل معها كمصدر للمعلومات. أضف إلى ذلك حالة من عدم اليقين بشأن تبعية القنوات للجهات المعنية، ما أثار الكثير من اللغط عند محاولة تتبع الشائعات وتمييز البيانات الرسمية.

يمكّن إعادة رغبة الإدارة العسكرية منذ بدء العمليات في تحييد الإعلام التقليدي، والاعتماد بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي ومؤثريها، يمكن في محاولة الوصول السريع دون وسيط، وإيصال الرسائل بعيدًا عن غرف تحرير المؤسسات الإعلامية.

ربما كان ذلك ضرورة من ضرورات المرحلة، لكن اليوم هناك حاجة أساسية لعمل إعلامي واسع يتجه للداخل قبل الخارج، يضمن إتاحة المعلومات الموثوقة، ويقوم بدور الرقابة على الأداء الحكومي، وينقل صوت الأفراد وواقعهم إلى المؤسسات الخدمية المعنية، مع اختلافه في الشكل والمضمون عن إعلام الثورة أو الإعلام العسكري.