31-مايو-2016

منصة إعدام في غزة

يعود الجدل الصاخب فلسطينيًا حول عقوبة الإعدام إلى الواجهة، مع إعدام السلطات في غزة 3 متهمين بجرائم قتل، وإصدار أحكام بالإعدام على آخرين في الفترة الماضية بخلفيات جنائية هذه المرة. 

النقاش حول الإعدام من النقاشات الكاشفة، كونه يقع في صلب التصورات المتباينة عن المجتمع والسياسة والقانون

الحقيقية أن النقاش حول الموقف من الإعدام من النقاشات الكاشفة والمهمة، كونه يقع في صلب التصورات المتباينة عن المجتمع والسياسة والقانون والتصورات الأخلاقية في أي مجتمع. ولذلك فخوض هذا النقاش مهما تكرر يظل مهمًّا جوهريا، هذا بالإضافة إلى كون وجود بشر يعدمون بشكل مستمر، مبرر لا حاجة لإثبات أهميته، لإعادة طرح هذه القضية الحساسة. وهنا لدي ملاحظات حول هذه القضية أوجزها في نقاط، بعضها متعلق بالنقاش العام حول الإعدام، والآخر بالبيئة القانونية والسياسية والمجتمعية في فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: يعلون وليبرمان.. العملة بوجهيها

أولًا: إن الطروحات المناوئة للإعدام والرافضة له، تحركت في جزء كبير منها ضمن جملة "مبادئ وأعراف" عالمية أو كونية تبنتها مؤسسات وجهات دولية ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات حقوق إنسان، عملت وتعمل في مناطق السلطة الفلسطينية. وبفضل هذا الخطاب وبرامج حملت عناوين واضحة وعريضة عن مناهضة عقوبة الإعدام، صار هذا النقاش مطروحًا على الأقل في الأوساط المشغولة بالشأن العام، ثم في الأوساط الصحفية والناشطين في المجال العام، وطبعًا داخل مستويات معينة من النخب السياسية والثقافية.

في حين ظل النقاش بعيدًا عن الجمهور أو العامة، لأسباب كثيرة، منها ما هو ديني ويتمثل في أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالقصاص (بصيغتها الخام أو المتداولة والتي لا تتعرض للاجتهادات العديدة في هذا الجانب)، ومنها ما هو مجتمعي متصل بالثأر وخلافه.

ولا يمكن لمتتبع للحديث حول مناهضة الإعدام إلا أن يلحظ هذين المستويين ومقدار الافتراق في المواقف بينهما. بل إن الأهم في سياق المقالة هنا، هو توضيح أنه حتى في الأوساط الحقوقية والصحفية المنشغلة بمناهضة الإعدام، تحوّل لأمر لخطاب أجوف وغير مقنع، وفي حالات كثيرة مجرد ترديد لمقولات عامة تنظمها حملات ومؤسسات دولية. بل إن الأمر يندرج في جزء كبير منه في إطار الالتزام باشتراطات الممول وأعرافه دون أي قناعة بها أو بقيمتها، والانخراط في هذه الحملات ما هو إلا جزء من "أتيكيت" النشاط ضمن مؤسسات دولية وبرامجها في المنطقة. أذكر جيدًا قبل سنوات كيف خضت حوارًا إذاعيًا مطولًا مع أحد المنسقين في حملة لمناهضة عقوبة الإعدام، وبعد انتهاء بث اللقاء صارحني تحت الهواء أنه مع الإعدام ولكن اشتراطات العمل تفرض التنظير ضد العقوبة. وأعتقد أن هذا حال كثيرين، وهو ما يستشف من منطق نقاشهم الشكلي للقضية برمتها، وجزء أساسي من رفض السلطة في رام الله مثلا لعقوبة الإعدام مرتبط باشتراطات الممول ولا ينجم عن وعي قانوني يتم التنظير له والدفاع عنه وتفعيله مجتمعيا.

ومهم هنا التنبيه إلى أن سوء تعاطي هذه الجهات مع هذه القضية لا يعني أن المقولات المؤسسة لرفض الإعدام متهافتة أو ضعيفة، بل بالعكس، إن التعامل مع هذه المبادئ كمجرد خطابات دون وعي سياقات تطورها هو ما يظهر الدفاع عنها بمظهر كاريكاتوري.

ظل نقاش مناهضة الإعدام بعيدًا عن الجمهور لأسباب كثيرة، منها ما يتمثل في أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالقصاص 

ثانيًا: البيئة القانونية معقدة، ولا حاجة لتوضيح ذلك، ولكن الشق المتعلق بنقاش الإعدام مرتبط بمحددين أساسيين، وهما كفاءة الجسم القضائي بكل لواحقه من نيابة وطب شرعي وتحقيقات ومختبرات وكفاءات وكوادر، وما يتصل بذلك من نزاهة وكفاءة لعملية التقاضي نفسها وتطبيق القانون على الجميع ومَن يطبّقه.

اقرأ/ي أيضًا: عقيدة الصدمة الغربية

كل هذا محاط بكثير من الشكوك، وهنا يبرز الرأي المهم القائل: "إن عدم تنفيذ الإعدام بحق مئة مستحق له، أهون من تنفيذ الإعدام بحق مظلوم". ولذلك وعلى هذا المستوى ونظرًا لأنه مهما بلغت قدرات الجهات القانونية والقضائية ومهما بلغت من كفاءة فإن إمكانية الخطأ والظلم واردة، ولدى العالم ذاكرة وافرة عمن أدينوا بالقتل وقضوا عشرت السنوات في السجون ثم تكشّفت أدلة تبرئتهم، فماذا لو كانوا أعدموا؟ وأي طريقة للفعل مع من أعدموا مظلومين؟ هذا هو المدخل الأهم - برأيي- لرفض عقوبة الإعدام فلسطينيًا، فنحن في واقع قانوني وسياسي معقد يجعل إمكانية الظلم حقيقية وكبيرة جدًا. تضاف هنا أيضا، الشكوك الكبيرة حول الانتقائية في تنفيذ أحكام الإعدام، تبعا لحجم المدانين وعوائلهم وارتباطاتهم التنظيمية. نحن نعيش واقعا يكفي فيه أن يتبنى تنظيم كبير عملية قتل حتى تنسى ولا يتدخل قضاء ولا غيره.

هذا بالإضافة إلى النزاع السياسي بين حماس وفتح وسلطتيهما، وما يمكن أن يسبب من تمرير ظالم لأحكام قضائية كثيرة تحت غطاء النزاع السياسي الذي بلغ الاقتتال والقتل. فأي أحكام عادلة يمكن انتظارها من بيئة كهذه؟ 

ومهم هنا الانتباه إلى أن جزءًا وافرًا من الاعتراض على أحكام الإعدام في غزة نابع من خلفية المعارضة السياسية لا الموقف القانوني والأخلاقي من الإعدام، وهذا ما يشوّه النقاش الجاد ولا بد من كشفه لأنه استثمار لأرواح بشر في سجال سياسي والأنكى أنه يحمل ادعاءات أخلاقية أثناء ممارسة فعله اللاأخلاقي.

ثالثًا: وتبعًا للبيئة القانونية، فإن البيئة العقابية أو الرادعة معقدة أيضًا، وهذا النقاش عالمي وليس فلسطينيًا فقط، فجزء مهم من القناعة بأهمية عقوبة الإعدام متصل بحالات كثيرة لا تكون فيها العقوبات الأخرى كفؤة. وأهم مثال على ذلك هي الحروب والكوارث الطبيعية التي تسفر عن تدمير سجون وأجزاء منها وتمنح فرصا للفرار لمتهمين بجرائم بالغة الخطورة.

إن وجود إمكانية لخروج المدان بجرائم كبرى مثل القتل من السجن، هربًا أو تهريبًا، هو أهم مدخل برأيي، للدفع نحو الإبقاء على عقوبة الإعدام، وكلما زادت هذه الإمكانية فالدفاع عن الإعدام يكون أكثر معقولية. ولا يخفى على أحد يعرف واقع غزة والضفة كيف ساهمت الحروب المستمرة والفلتان الأمني في إخراج مجرمين من السجون وارتكابهم لجرائم جديدة، بل إن في حالات العملاء المتسببين في مقتل فلسطينيين، يبدو إشكاليًا جدًا وضعهم خلال حرب وإمكانية تهريبهم من السجون تحت القصف أو غيره وعودتهم لممارسة نشاطهم بطرق مختلفة. وهذا ما ينبغي التفكير به جيدًا عند الحديث عن البيئة العقابية في الضفة وغزة. وما يكاد يغيب عن مقولات الرافضين للإعدام في الحالة الفلسطينية.

رابعًا: إن الانشغال بقضية أيهما أكثر ردعًا، السجن المؤبد مع أشغال مثلًا أم الإعدام، يبدو في شق كبير منه نظريًا جدًا ودون أي آليات عملية لفحصه وقياسه. فهل لدينا إحصائيات عن حالات متساوية في كل معطياتها، إحداها ينفذ فيها الإعدام وأخرى السجن مثلا، لنتمكن من المقارنة والحكم؟ هذا غير متوفر. وبدل الانشغال بمركزة العقوبة كإجراء وحيد للردع، لا بد من التفكير في عناصر أخرى أكثر أهمية ولا بد أن تكون سابقة على القتل أصلًا، مثل زيادة كفاءة الأجهزة الشرطية، وتطوير آليات مجتمعية لفك الاحتقانات التي تؤدي بالناس للقتل، وعلى مستوى أوسع تحميل الجهات الرسمية مسؤولياتها إن كانت الجرائم على خلفيات الفقر والحاجة وتكدير حياة فئات اجتماعية لصالح فئات أخرى.

كوننا نعيش في واقع يقتلنا فيه الاحتلال كل يوم، لا يعني أن تفتر حساسيتنا تجاه القتل

إن المجتمعات والدول التي تتدنى فيها معدلات جرائم القتل، هي ببساطة دول أكفأ وجبهات داخلية أمتن، وليس الأمر متصلا بتطبيقها للإعدام أو السجن في حالات القتل.

اقرأ/ي أيضًا: الإذاعة التي صارت محكمة في غزة

ثم إن الانشغال بالقتل فقط ضمن هذا النقاش سلبي جدًا، ومتصل بعادات الثأر والخلفية التبسيطية الساذجة عن قتل القاتل، طيب ماذا بشأن المتاجر بالبشر؟ المستغل جنسيًا للأطفال؟ تجار المخدرات القاتلة؟ دعكم من كل هذا، ماذا بشأن وزير متورط في صفقات دواء فاسدة أدت لوفيات؟ طبيب متواطئ في تعذيب مسجونين قضوا تحت التعذيب؟

لا بد من توسيع التفكير هنا، وعدم حصره في العقلية الثأرية التي لم تشف غليل أحد ولم تنتج حياة كريمة. وهذا يقود للتساؤل الحقيقي عن كون قتل القاتل يوفر راحة نفسية واجتماعية لأهل القتيل، أم أن الأمر مجرد قناعة عامة غير خاضعة للتدقيق والفحص؟ ثم هل فعل كل ما يوفر راحة نفسية ويشفي غليل الضحية هو أخلاقي؟ ماذا لو كان ما تطلبه الضحية غير أخلاقي أصلًا؟ وعلى صلة بهذا فإن العقلية الانتقامية أو التبرير الانتقامي للإعدام وجعل فكرة "الانتقام من المجرم" هي محدد كل شيء، هو منطق فاسد وساقط لا قيمة له، وذلك نظرا لاختلاف المجرمين وتباين حاجاتهم النفسية وتأثرهم النفسي بالعقوبة، وهنا يمكنني المغامرة والقول إن الإعدام أهون ألف مرة من العيش لأربعين سنة حتى الموت في سجون عربية. هذا إن شئنا المناكفة والتبسيط.

من البديهي القول إن وجودنا في إطار دول حديثة، طبعا إن كنا موجودين فيها، فهذا يعني انتقال جريمة القتل من كونها شأن عائليًا يتصل بعائلة القتيل، إلى كونها شأنًا مجتمعيًا بالمعنى الأخلاقي، ودولاتيًا أو متصلًا بالدولة وأجهزتها بالمعنى القانوني والتنفيذي. وبلوغ هذه المرحلة لا يتم بتوزيع ملصقات عليها ختم الاتحاد الأوروبي أو مجرد تكرير مقولات دون وعي بالبيئة القانونية المحلية وتعقيداتها، أو القول إن العالم المتحضر اليوم لا ينفذ عقوبة الإعدام، في حين يقتل آلاف البشر بكبسة زر وعن بعد.

أخيرًا، كوننا نعيش في واقع يقتلنا فيه الاحتلال كل يوم، لا يعني أن تفتر حساسيتنا تجاه القتل أو نتجنب النقاشات الجادة التي يكون موضوعها مصيرًا مثل القتل. ولكن من المهم أن يظل توجيه النقاش ونقده مستمرًا. وإن الانشغال بمن تنفذ بحقهم عقوبة الإعدام أكثر من أي قتلى آخرين يقضون كل يوم بسبب منظومة الثأر وقتل النساء، هو انشغال زائف. كذلك هو تصور الجمهور والشعب كقطيع تردعه السلطات وتؤدبه بأساليب لا تختلف عن أساليب المجرمين أنفسهم.

اقرأ/ي أيضًا:

كيف أصبح الدولار حاملًا للمشروع الصهيوني؟

صحيفة عكاظ.. تجهيل وتشهير ضد الإعلام الديمقراطي