30-أغسطس-2019

هل انتهى عصر الدبلوماسية التقليدية؟ (Getty)

من خلال إلقاء  نظرة على خريطة العالم اليوم، والتأمل في نقاط التوتر ومجالاته، وبذات الوقت مستذكرين القوى التي تقف خلف هذه التوترات، نستطيع أن نستنتج بأن الظروف الحالية تشبه إلى حد بعيد المناخ السياسي قبيل الحرب العالمية الثانية، من حيث بوادر أزمة اقتصادية عالمية،  مع صعود مضطرد لقوى اليمين الشعبوي في العالم، بالإضافة إلى اتساع نطاق الأزمات السياسية  في العالم أجمع، إلا أن أبرز ما يتقاطع مع تلك المرحلة هو حالة "الخفة السياسية" أو الإسفاف، وإن كانت بدرجة أشد وضوحًا. وهو ما يثير التساؤلات عن مستقبل "السياسة التقليدية" أو حتى الأنماط القديمة من العلاقات الدبلوماسية، في وقت تغير فيه تغريدة مسارات سياسية كاملة، وفي وقت يصعد فيه زعماء جدد، قادمون من عالم الرياضة والفن.

تثار العديد من التساؤلات عن مستقبل "السياسة التقليدية" أو حتى الأنماط القديمة من العلاقات الدبلوماسية، في وقت تغير فيه تغريدة مسارات سياسية كاملة، وفي وقت يصعد فيه زعماء جدد، قادمون من عالم الرياضة والفن

تويتر كمنصة للفعل السياسي

لم يوفر رائد الأعمال العقارية دونالد ترامب لدى وصوله إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية أي فرصة لكي يلقي بتصريحات وتعليقات تثير التساؤل والاستغراب، حيث قام باستخدام تطبيق تويتر الذي  يعطي مستخدميه الفرصه فى التغريد عبر كتابة نص معين بحد أقصى 280 حرف، كمنصة يطلق من خلالها تصريحاته بل وحتى إجراءاته، فأصبحت السياسة الأمريكية تختزل بما لا يتعدى ثلاث جمل يصوغها على عجل. ولعل أبرز مثال هو تلك التغريدة التي أعلن بموجبها إقالة وزير خارجيته ودون علم مسبق من ذلك الأخير، بل وتعيين بديل عنه.

اقرأ/ي أيضًا: حرب دونالد ترامب المقدسة

من الواضح أن أداء الرئيس الأمريكي قد تطور في الآونة الأخيرة، فأخذ يستخدم مجازات وتوريات مثيرة للجدل، ليعبر عن مواقفه، فعلى سبيل المثال ونتيجة للإجراءات التجارية المتبادلة ما بين الولايات المتحدة وفرنسا، والتي كان آخرها فرض ضرائب إضافية على الشركات التكنولوجية العملاقة الأمريكية، غرد الرئيس الأمريكي للرد على هذا الإجراء بإبداء رأيه في النبيذ الفرنسي بالمقارنة مع النبيذ الأمريكي، كما أنه وصف الرئيس الفرنسي بالغباء، الأمر الذي لم نعهده في تاريخ الدبلوماسية الدولية.

الملفت للنظر أن زعماء العالم قد انساقوا بشكل كامل في هذا البروتوكول السياسي الجديد، من خلال تبادل التغريد السياسي الذي أتاح للبعض منهم تجاوز كامل حدود التخاطب الدبلوماسي التقليدي، بما احتوته من ألفاظ وتصريحات بل وحتى أخطاء، وقد يكون تبادل التهكم ما بين الرئيس البارازيلي ونظيره الفرنسي على خلفية أزمة حرائق البرازيل التي وصلت إلى المقارنة ما بين نساء رؤساء هذه الدول، خير مثال على ذلك.

غزارة المعلومات ودلالة الصورة وتفاهة الرد

تجسيد آخر للإسفاف السياسي، تمثل في  الإنكار والكذب العلني الذي تمارسه بعض الدول (العظمى) على الملأ، وفي أهم المحافل الدولية، ولعل شدة دفاع الجانب الروسي في مجلس الأمن عن جرائم النظام السوري من خلال استخدام الفيتو رغم جميع التقارير والشهادات التي تؤكد تجاوز هذا النظام لجميع الخطوط الحمراء، مثال واضح. فيما بدأ العالم يتساءل عن حقيقة استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية، فيما يشبه الرخصة التي تتيح له القتل باستخدام الأسلحة التقليدية، ويضاف إليها أيضًا وفي وقت سابق العلاقة التي تربط الرئيس الروسي برجل العصابات رمضان قاديروف، والذي بقي لفترة طويلة رئيسًا للشيشان التي مورس فيها أيضًا مختلف أنواع الانتهاكات وبشكل واضح وعلى نطاق واسع.

يظهر الإسفاف هنا من خلال ذلك الإنكار الصريح للصور التي تجتاح الفضاء الإلكتروني، والتي تعكس مدى الاستخفاف بقيمة الوجود الإنساني، فعلى سبيل المثال أثارت الصور التي تسربت من معتقل غوانتانامو موجة من الاستنكار والإدانة والغضب العالمي، وفي المقابل ونتيجة العنف المعمم الذي نشهده اليوم، تبادل كل من الرئيس الروسي ونظيره الفرنسي في القمة التي جمعتهما في في 19 تموز/يوليو الاتهامات الأنيقة حول من منهما مارس العنف تجاه المتظاهرين بشكل أقوى وأشد.

دبلوماسية الجريمة

أما أكثر المشاهد إسفافًا فكانت تلك الجريمة التي ارتكبت بحق الصحفي جمال خاشقجي،  في هذه الحالة لم تكن فقط عملية القتل بحد ذاتها هي المدهشة، بل وأيضًا تلك المساومة العلنية على دماء الرجل في المحافل الدولية، من خلال محاولة النظام السعودي ممثلًا بولي عهده عقد جملة من الصفقات مع الجانب التركي والجانب الأمريكي وكثير من الجهات الأخرى، لتجاوز هذا الحدث وتلافي أي تبعات تطيح بجملة من التحالفات السياسية، والذي ظهر من خلال الانتقاد الخفيف والخجول حول ممارسات التحالف العربي في اليمن.

اقرأ/ي أيضًا: هل ستصمد الديمقراطية أمام شعبوية ترامب؟

كما أن واحدة من أشد النوادر إضحاكًا على المستوى الدولي تأكيد حسن روحاني عدم نية بلاده تطوير برنامجها النووي لأهداف عسكرية، مستندًا إلى فتوى أصدرها آية الله خامنئي بهذا الشأن، مطالبًا العالم بأخذ هذا الإجراء كدليل دامغ على ذلك، ليرافقها العديد من التقارير التي تفيد بنية الولايات المتحدة تزويد المملكة العربية السعودية بهذه التقنية.

إن قتامة المشهد وسوداويته اليوم تحيل إلى جملة من الاستنتاجات، لعل أهمها إحساس أنصار المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية بالانتصار والتي تعتبر أن المصلحة هي المعيار الأول في نجاعة الإجراء

إن قتامة المشهد وسوداويته اليوم تحيل إلى جملة من الاستنتاجات، لعل أهمها إحساس أنصار المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية بالانتصار والتي تعتبر أن المصلحة هي المعيار الأول في نجاعة الإجراء، وأن التنافس غير مضبوط المعايير هو الطريقة المثلى في إدارة مصالحهم ومحاولتهم لإعادة صياغة العالم ضمن مفردات الحرب الباردة، رغم أن حالة الاستقطاب اليوم لا تسمح بذلك، نظرًا لتشابه المصالح و الأدوات وغياب الفوارق الأيدولوجية ما بين فرقاء الصراع.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أين ينتصر الشعبويون في العالم؟ ولماذا؟