26-مارس-2025
أعادت المقاومة تشكيل المعادلات العسكرية والسياسية والإعلامية (AFP)

أعادت المقاومة تشكيل المعادلات العسكرية والسياسية والإعلامية (AFP)

منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، دخل الصراع في فلسطين المحتلة مرحلة جديدة، أعادت تشكيل المعادلات العسكرية والسياسية والإعلامية. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي المتصاعد، خصوصًا على قطاع غزة، تتزايد الأسئلة حول مستقبل المقاومة الفلسطينية.

في المقابل، تتكثف الضغوط المحلية والدولية لنزع سلاح المقاومة، وإقصائها من المشهد، عبر تصريحات ومبادرات تُطرح تارةً في العلن، وتُدبَّر تارةً أخرى في الخفاء.

المقاومة وتغير قواعد الاشتباك

أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرتها على كسر الهيمنة الإسرائيلية التكنولوجية والعسكرية، وهو تحوّل لم يكن واردًا في العقود الماضية. إسرائيل التي بنت عقيدتها الأمنية على التفوق التقني والاستخباراتي وجدت نفسها، يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أمام مفاجآت غير متوقعة: اقتحامات، واشتباكات مباشرة، وعمليات نوعية كشفت هشاشة جبهتها الداخلية، وعرّت منظومة الحماية التي طالما سوقتها للعالم عن نفسها.

أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرتها على كسر الهيمنة الإسرائيلية التكنولوجية والعسكرية، وهو تحوّل لم يكن واردًا في العقود الماضية

لكن الأهم من ذلك كله أن المقاومة نجحت في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي، بعد سنوات من التهميش المقصود. عاد اسم فلسطين ليُتداول في الساحات والجامعات والإعلام، وتحولت المظاهرات في العواصم الغربية إلى مشهد يومي يعكس تضامنًا متناميًا يصعب تجاهله أو الالتفاف عليه.

تحولات في الرأي العام العالمي: كسر الرواية الإسرائيلية

للمرة الأولى منذ عقود، تشهد الساحة الدولية تحولًا جذريًا في الرأي العام بشأن القضية الفلسطينية. في الجامعات الأميركية والبريطانية والأوروبية، تصاعدت حركة طلابية مؤيدة للفلسطينيين، لم تقتصر على التظاهر والاعتصامات فحسب، بل امتدت إلى حملات مقاطعة أكاديمية واقتصادية، واستقالات جماعية للأساتذة احتجاجًا على الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.

الحملة الإسرائيلية المضادة، التي يقودها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فشلت في احتواء هذا التغير. بل إن قرارات الإدارة الأميركية مثل اعتقال المتضامنين مع القضية الفلسطينية، وتقييد تأشيرات الطلاب، والضغط على الجامعات والأساتذة، أضافت مزيدًا من الزخم لحركة التضامن مع فلسطين، ما يؤكد أن الوعي العالمي لم يعد في صالح إسرائيل كما كان في السابق.

وما يزيد من تعقيد المشهد أمام إسرائيل هو أن حقبة الإفلات من العقاب قد ولّت. اليوم يواجه جنود الاحتلال المشاركون في الإبادة الجماعية في غزة ملاحقات قانونية في مختلف دول العالم، حيث بدأت جهات حقوقية في تقديم دعاوى ضدهم بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. بل إن قادة الاحتلال أنفسهم، بمن فيهم نتنياهو وكبار المسؤولين يواجهون دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو تطور غير مسبوق يكشف أن إسرائيل لم تعد بمنأى عن المحاسبة الدولية، رغم الدعم الغربي.

بثّ الهزيمة: كيف تحارب إسرائيل بالوهم؟

على الجانب المقابل، بالإضافة لحرب الإبادة التي تمارسها، تخوض إسرائيل حربًا نفسية تهدف إلى تكريس الشعور بالهزيمة لدى الفلسطينيين. عبر الرسائل الدعائية التي تبثها وسائل الإعلام، تسعى إسرائيل إلى إيصال رسالة مفادها: "أنتم وحدكم، لا أحد معكم".  

علاوة على ذلك، تحاول إسرائيل ترويج فكرة أن المقاومة هي المسؤولة عما يحدث في غزة، في محاولة لتحميلها تبعات المجازر والدمار، لا الاحتلال الذي يرتكبها. تتماهى مع هذا السرد أصوات سياسية وإعلامية عربية وفلسطينية، تدفع باتجاه إلقاء اللوم على المقاومة بدلًا من فضح الجرائم الإسرائيلية. تهدف هذه الدعاية الممنهجة إلى ضرب الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وإضعاف الروح المعنوية عبر خلق انقسام داخلي يسهّل فرض الحلول التي تتماشى مع الرؤية الإسرائيلية والأجندات الداعمة لها.

نزع السلاح: أخطر مرحلة في مشروع التصفية

في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، تصاعدت بعض الأصوات التي تدعو إلى نزع سلاح المقاومة أو حتى خروجها من القطاع كحل لإنهاء الحرب والمعاناة الإنسانية. هذه الدعوات، التي تأتي أحيانًا من جهات دولية أو شخصيات فلسطينية ترى في المقاومة عبئًا على الشعب، تتجاهل حقيقة أن المقاومة ليست مجرد فصيل مسلح، بل هي التعبير الفعلي عن حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم أمام احتلال عسكري مستمر.

إن الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة تعني عمليًا تكريس الاحتلال وتثبيت حالة العجز الفلسطيني أمام آلة القمع الإسرائيلية، فالتجربة أثبتت أن أي محاولة لفرض حلول سياسة، دون تحقيق العدالة، لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من القهر والتوسع الاستيطاني. كما أن هذه الدعوات تتجاهل أن المقاومة ليست فقط سلاحًا، بل هي مشروع وطني يسعى إلى انتزاع حقوق الفلسطينيين في وجه مشروع صهيوني قائم على محو الهوية الفلسطينية.

إخراج المقاومة من غزة هو إضعاف للمشروع الوطني الفلسطيني، ولن يؤدي إلى تحقيق الأمن والاستقرار، بل سيكون مقدمة لمزيد من السيطرة الإسرائيلية. وفي كل المحطات التاريخية أثبت الاحتلال أنه لا يلتزم بأي اتفاقيات أو ضمانات دولية، وهو ما يجعل أي خطوة في هذا الاتجاه مغامرة خطيرة قد تعيد إنتاج سيناريوهات سابقة من القمع والتهجير دون قدرة على المواجهة. وهذا ما يؤكده المسؤولون في الحكومة الإسرائيلية الذين يتحدثون عن أن اليوم التالي للحرب في غزة هو خطة ترامب، وهذا يعني التهجير القسري سيفرض كأمر واقع. 

بين نيران الداخل والضغط الدولي: خيارات المقاومة اليوم

لا يمكن إنكار حجم التضحيات التي يقدمها الفلسطينيون يوميًا، لكن يحتاجون اليوم إلى رؤية سياسية متماسكة لمواجهة الواقع المعقد الذي يعيشونه اليوم، حيث يتعرضون لحرب إبادة ممنهجة على يد الاحتلال الإسرائيلي، وسط تواطؤ عربي وإقليمي ودولي يسعى إلى تصفية قضيتهم بوسائل مختلفة، من التهجير إلى فرض واقع جديد على الأرض يقضي على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.

لقد بات واضحًا أن الاحتلال لا يواجه أي ضغوط حقيقية من المجتمع الدولي، بل يحصل على دعم غير مشروط من القوى الكبرى، في الوقت الذي تتبنى بعض الدول العربية سياسات تطبيع تجعلها أقرب إلى الحليف الإسرائيلي منها إلى المدافع عن الحقوق الفلسطينية. أما داخليًا، فإن الانقسام السياسي الفلسطيني أضعف قدرة الفلسطينيين على بناء مشروع وطني جامع يواجه التحديات القائمة.

في ظل هذه الظروف، لا بد من تبني رؤية سياسية جديدة تقوم على الوحدة الوطنية، وترتكز على المقاومة بمختلف أشكالها، سواء المسلحة أو الشعبية، إلى جانب الاستثمار في الزخم العالمي المتزايد لدعم القضية الفلسطينية. إن التصدي لمشاريع التهجير والتصفية يتطلب إستراتيجية فلسطينية موحدة، تتجاوز الحسابات الفصائلية الضيقة، وتعمل على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس وطنية، بحيث يكون القرار السياسي مستقلًا ومعبرًا عن تطلعات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.

الخروج من هذا الوضع لا يكون عبر الرهان على التنازلات السياسية أو الحلول المفروضة من الخارج، بل من خلال تعزيز المقاومة والصمود، والرهان على التحولات العالمية المتسارعة التي بدأت تكشف الوجه الحقيقي للاحتلال، ودعم الحراك الشعبي الدولي المتضامن مع فلسطين، باعتباره عنصرًا مهمًا في مواجهة محاولات تصفية القضية.

في ظل هذه الظروف، لا بد من تبني رؤية سياسية جديدة تقوم على الوحدة الوطنية، وترتكز على المقاومة بمختلف أشكالها، سواء المسلحة أو الشعبية

ما بين البندقية والتصفية: المعركة مستمرة

تُستهدف المقاومة الفلسطينية كجزء من مشروع أكبر يسعى إلى إعادة صياغة الواقع الفلسطيني برمّته، لا فقط إخراج فصيل من معادلة الحكم أو السيطرة. إن ما يجري لا يمكن قراءته فقط بوصفه عدوانًا عسكريًا، بل هو محاولة لإعادة إنتاج شروط التسوية وفق معادلات ما بعد تشرين الأول/أكتوبر 2023، بما يتناسب مع مصالح الاحتلال وحلفائه الإقليميين والدوليين.

من هنا، فإن الدعوات إلى نزع السلاح أو تحييد المقاومة لا تعبّر عن حرص على إنهاء المأساة الإنسانية، بقدر ما تكشف عن رغبة في تفكيك آخر ما تبقّى من أدوات الرفض الفلسطيني. مواجهة هذا المسار لا تكون بالشعارات وحدها، بل تتطلب رؤية سياسية موحدة، تعيد بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أساس من الواقعية والمقاومة، بعيدًا عن الارتهان لأوهام الحلول المفروضة أو الحسابات الفصائلية الضيقة.