14-سبتمبر-2021

استديو تاتو في شيفيلد، شمال إنجلترا (Getty)

يفيد إحصاء أجرته مؤسسة هاريس للاستطلاعات عام 2016، أن واحدًا من كل أربعة أمريكيين نقشوا أوشامًا على أجسادهم، نادم اليوم على التجربة. الندم له مصادر أخرى أيضًا: نندم على خيارات اتخذناها، ومغامرات لم تكن محسوبة، وقسوة أظهرناها لآخرين. ليس الموشومون فقط هم من يغلبهم الندم. لكنهم على الأغلب أكثرنا تشبثًا بهوياتهم الفردية. منذ أن نولد نؤخذ بكليتنا: أسماؤنا ليست لنا، إنها تمنيات أهلنا وذكرياتهم. لا نختار مدارسنا ومستوى معيشتنا، هي أيضًا ملك آبائنا، أو بالأصح تعبير صارخ عما لا يملكونه. غرامياتنا الأولى محدودة المصادر، أولاد الجيران زملاء وزميلات الدراسة، زملاء وزميلات العمل. عمليا يندر أن ينجح أحد في الخروج من أسر ظروف ولادته. وإن خرج، يصبح منفيًا بمعنى ما، مهاجرًا مستوحدًا، يجهد يومه وليله لكي لا ينقطع ذكره. الذين ينجحون في إبقاء ذكرهم راهنا وحالّا هم الذين ينجون من الغرق في بحر المهاجر المتلاطمة. وما أن يعاودون ظهورهم في يوميات الأهل، حتى يكون الأهل قد استعادوهم، وغضوا الطرف عن بعض الأوشام التي نقشتها الأيام في قلوبهم وذاكراتهم، أو على أجسامهم ووجوههم في حالات كثيرة.

شكل الوشم في العصر الحديث بطاقة هوية فردية. وجه آخر غير الذي ورثناه من أبوينا، تعريف للجسم ينقشه صاحبه باختياره

بيير بورديو يخالف كارل ماركس في التقسيمات الاجتماعية، يقول إن المجتمعات تنقسم إلى نطاقات. هذا نطاق المهن الحرة، التي يتفرع عنها نطاقات أصغر، وأهله يأكلون ويشربون ويستمتعون ويحزنون ويتزوجون وينجبون فيما بينهم في الأغلب الأعم. وذاك نطاق الأكاديميين، وهم أيضًا غالبًا ما يتزاوجون في ما بينهم وينجبون أساتذة جامعات. وقس على ذلك. وحين يكون النطاق الاجتماعي مستقرًا، والانتماء إليه مجزيًا، فإن محاولة الأبناء الهروب منه لتشكيل ذواتهم تصبح أقل تواترًا. النطاقات الاجتماعية التي تشهد نزوحًا مضطردًا هي النطاقات الأدنى في سلم الاجتماع والثروة. وفي تلك النطاقات يولد الحالمون، أولئك الذين ينجحون في تغيير وجوههم وأجسامهم وفصلها عن الجماعة.

اقرأ/ي أيضًا: هل تخطو السياسة فوق الجسد أم من خلاله؟

أيضًا ثمة الوجوه التي تتشابه بين الجماعات، لونًا غالبًا، وملامح متشابهة. يحدث أن يولد لعائلة ولد أو بنت فائق أو فائقة الجمال، لكنه، أو لكنها، يحمل وتحمل ملامح أبويه، وأبويها. الاختلاط هو ما يصنع الفرق، وربما يصح القول إنه يصنع الفرد. أن تكون فردًا يعني أنك ولدت من الفراغ في أكثر حالات الفردية صفاء، أو أن تكون ولدت من تزاوج ذكر وأنثى يتحدران من جماعتين مختلفتين وغريبتين.

ما علاقة كل ما تقدم ذكره بالأوشام؟ الأرجح أنها شكلت في العصر الحديث بطاقة هوية فردية. وجه آخر غير الذي ورثناه من أبوينا، تعريف للجسم ينقشه صاحبه باختياره. وفي عالم تكاد مباضع الجراحين تجعل كل وجوه الناس تشبه بعضها، يبدو الوشم هو المفرّق الوحيد بين فرد وآخر. هذه الساق لفلانة، لأننا تعرفنا على الوشم الذي نقشته عليها، وهذا العنق لفلان لقد سبق لنا ورأيناه مرارًا. أما الوجوه فمتشابهة، وحتى الأفواه، وهي أكثر أعضاء الجسد قدرة على التعبير والإيحاء من دون كلام، وبكلام أيضًا، باتت مدربة على التعبير والإيحاء حسب الحاجة، وليس حسب الشعور. (ما أن تتموضع للصورة حتى تقرر أي ابتسامة سترسم على شفتيك، من دون حاجة إلى تجريب).

يقول الممثل الأمريكي جوني ديب إن جسمه هو مجلته، وإنه يرسم ويخط عليها ما يريد قوله. هذا صحيح في حالته ربما، ذلك أن جوني ديب هو فرد ممتاز

هذا كله يقع في النظر والمبدأ. إنما ومع شيوع صناعة الأوشام، وتحولها إلى موضة رائجة: نحو نصف الإيطاليين نقشوا أوشامًا على أجسادهم، وأقل من نصف الأمريكيين بقليل، والنسب في الدول الأخرى لا تنزل عن عتبة الثلاثين بالمئة إلا في ما ندر. مع شيوع صناعة الأوشام، أصبح الوشم أشبه ما يكون ببطاقة انتماء إلى الجيل أو الجماعة. لم يعد شخصيًا، ولم يعد خيارًا فرديًا. لقد تحول، أو حولته الصناعة الرأسمالية، إلى نوع من الموضة الواجبة الاتباع. وعلى نحو ما بات الوشم إعلانًا فجًا بالانتماء إلى جماعة أو جيل أو عصابة أو هوس منتشر.

اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني

يقول الممثل الأمريكي جوني ديب إن جسمه هو مجلته، وإنه يرسم ويخط عليها ما يريد قوله. هذا صحيح في حالته ربما، ذلك أن جوني ديب هو فرد ممتاز. وليس بوسع أهله وعزوته أن يوازوه، والوشم الذي ينقشه على جسده ما زال يستطيع التعبير عن فردية ما. لكن أوشام الناس، عامة الناس، باتت على نحو ما إعلان إعادة اندراج في جماعات، ليست بالضرورة أفضل من الجماعات التي يسعى الأفراد المميزون للخروج عليها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الوجه وأنطولوجيا الغيرية عند إيمانويل ليفيناس

عن "مشروع المحترف- تمارين في التعب".. ما الذي تفعله الأيدي الحاذقة؟