06-مايو-2021

تواجه القدس تصعيدًا في عمليات التهويد في الأعوام الأخيرة (Getty)

في مقال نشرته "وول ستريت جورنال" في 14 آذار/مارس الماضي، عبر جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكي السابق، وعرّاب اتفاقيات التطبيع بين أنظمة عربية ودولة الاحتلال، عن قناعته بأن العالم يشهد المراحل الأخيرة لما يسمّى "الصراع العربي الإسرائيلي"، بعد عقود انقضت على رفض الأنظمة العربية قيام دولة "إسرائيل"، واستخدام حجّة وجودها للتغطية على التخلّف والاستبداد فيها. أما اليوم، فيقول كوشنر إن بعض اليهود يشعرون بالراحة بارتداء "الكيباه" وهم في دبي، أكثر مما يشعرون بذلك وهم في فرنسا، وهي الملاحظة التي دفعته لأن يقول أيضًا إن العداء بين الإسرائيليين والعرب في الشرق الأوسط خلال العقود السبعة الأخيرة ليس مطلقًا، وأن التعايش بين الطرفين سيكون هو السائد، كما كان في الأزمنة البعيدة الماضية.

يدعو كوشنر  بايدن وبقية العرب إلى الطاولة التي أعدّها ترامب، لاستغلال الفرصة وإطلاق الإمكانات الكامنة في الشرق الأوسط ومساعدة الأجيال الجديدة في المنطقة على تجاوز صراع العقود الماضية

يدعو كوشنر في مقاله بايدن وبقية العرب إلى الطاولة التي أعدّها ترامب، لاستغلال الفرصة وإطلاق الإمكانات الكامنة في الشرق الأوسط، والحفاظ على أمن الولايات المتحدة، ومساعدة الأجيال الجديدة في المنطقة على تجاوز صراع العقود الماضية، وبدء فصل جديد من الشراكة والازدهار والسلام.

اقرأ/ي أيضًا: أبارتهايد كامل الأوصاف

عقود مريرة من الاستيطان والاحتلال والتطهير العرقي والفصل العنصري والحصار والتجويع وغيرها من جرائم الحرب الموصوفة في الشرائع الدولية، ستمسح من الذاكرة والوجدان، بزعم كوشنر، عبر "الهزّة السياسية" التي أحدثتها موجة التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي على حد تعبيره، والتي يؤكّد أنها لم تنته بعد. أول ثمار هذه الموجة تمثّل بحسبه في توافد الإسرائيليين لزيارة دبي منذ أيلول/سبتمبر الماضي، بعد توقيع "اتفاقات أبراهام"، والتي وصفت، بحقّ، أنها تؤسس لحقبة جديدة في الشرق الأوسط، عبر قيام تحالف صهيوني يقلب الحقائق، ويدرج الاحتلال في خانة المألوف الطبيعي، ويجعله مواجهة مفتوحة ضدّ "التطرّف" الفلسطيني "الرافض للحياة"، والمحترف لهدر الفرص، كما يزعم كوشنر.

ربما تكون ثمّة أمارات عديدة عربيًا وفلسطينيا لاقتراب الصراع من نهايته بالفعل، وهي ليست بأمارات جديدة، بل من المفاجئ عدم ظهورها وتطوّرها عبر خطّ طويل من الانكسارات والصفقات، من النكسة، مرورًا بكامب ديفيد، ومن بعدها أوسلو ووادي عربة، ووصولًا إلى "اتفاقات أبراهام" وصفقة القرن التي كادت تكون الفصل الأخير في قبل ابتلاع إسرائيل الكعكة بأكملها بلا مساءلة، لتهيمن بقوة الأمر الواقع على "أرض إسرائيل" التاريخية، كيانًا وحيدًا ذا سلطة فعلية مطلقة بين النهر والبحر، دون أي خشية من عواقب عربية أو دولية، حتى على صعيد الموقف السياسي الرمزي.

ليس بعيدًا عن الصحّة افتراض كوشنر في مقاله أن صراع إسرائيل مع العرب قد أوشك على الانتهاء، إن كان يقصد الأنظمة العربية القائمة التي ترزح تحت وطأة اضمحلال شرعيتها وأزماتها أمام شعوبها. وليس أدلّ على ذلك من التعاطي الرسمي العربي مع تقرير "هيومن رايتس ووتش" الأخير، والذي حمل عنوانًا يدين السلطات الإسرائيلية ويتهمها بجريمتي الفصل العنصري والاضطهاد ضدّ الفلسطينيين. هذا التقرير الذي جاء في أكثر من مئتي صفحة، وصدر عن مؤسسة دولية ذات مصداقية عالية، تنشط في عشرات الدول حول العالم، ولها العديد من المنجزات الحقوقية التي أسهمت في تغيير مصائر الآلاف من البشر ومنحت الحياة لعشرات القضايا الإنسانية التي سعت الأنظمة السياسية المختلفة للتستّر عليها.

التقرير وصف ما تقوم به دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين بأنه "نظام أبارتهايد"، يهدف إلى الحفاظ على هيمنة إسرائيل على غير اليهود في جميع الأراضي التي تسيطر عليها، والسعي غير القانوني إلى اقتطاع مساحات إضافية من الأراضي والحرص على اشتمالها على أقل عدد ممكن من الفلسطينيين. كما ضمت ثنايا تقرير هيومان رايتس ووتش دحضًا غير مباشر لادعاءات جاريد كوشنر بشأن نهاية الصراع على فلسطين وحسمه لصالح الأقوى ضمن مسار السلام الرسمي والتطبيع والتنسيق الأمني، إذ يبدّد التقرير وهم أثر هذه العمليات وقدرتها على تغيير الصفة غير القانونية للواقع على الأرض. فالانتهاكات بحسب التقرير لن تنتهي تحت ظلال عمليات السلام، بل يؤكّد معدو التقرير أن ذلك لا يعدو عن كونه مراوغة مكرورة لاستمرار تجاهل الكارثة الإنسانية والحقوقية على الأرض.

ويكاد التقرير في وضوحه وتفاصيله وتوصياته أن يكون أشبه بمناشدة للأنظمة العربية تحفزّها للتحرّك الدبلوماسي والقانوني واستغلال الأدوات المتاحة بالاتكاء على التقرير، ومطالباته بالتحرك أمام الجنائية الدولية للتحقيق بشأن تلك الجرائم، ودعوته للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق دولية، وفرض عقوبات بقرار من مجلس الأمن الدولي تشمل منع السفر وتجميد الأصول، إضافة إلى تقييد مبيعات الأسلحة لدولة الاحتلال والتجارة معها.

اقرأ/ي أيضًا: القدس عربية.. هل ستبقى كذلك؟

لكن في ظل الوهن الرسمي عربيًا وفلسطينيًا والفشل بمجرّد التحرّك ضمن هذه الأطر، فإن تقرير "هيومان رايتس ووتش" يتحوّل من حالة قانونية متقدّمة توفر إمكانات لإحياء المظلمة الفلسطينية على الساحة الدولية، إلى محلّ حرج جديد للأنظمة العربية، بما فيها السلطة الفلسطينية، والتي لا تفتأ تكرر قناعتها المطلقة بمسار المفاوضات، كأسلوب وحيد عبثي لتحصيل الحقوق، دون أدنى اعتبار لما يجري على الأرض، من ترسّخ للاحتلال وتوسع للاستيطان، على حساب الفلسطينيين. بل إن التقرير يمثّل إحراجًا أكبر لسلطة أوسلو، حيث يدعوها بوضوح إلى "وقف كافة أشكال التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي"، وهو تنسيق يسهم وفق التقرير، بتسهيل جرائم الفصل العنصري والاضطهاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يجعل السلطة الفلسطينية متواطئة مع الاحتلال، ومشاركة في الجريمة المنهجية الواقعة على الفلسطينيين.

 في ظل الوهن الرسمي عربيًا وفلسطينيًا فإن تقرير "هيومان رايتس ووتش" يتحوّل من حالة قانونية متقدّمة توفر إمكانات لإحياء المظلمة الفلسطينية على الساحة الدولية، إلى محلّ حرج جديد للأنظمة العربية

هكذا ربما يكون من المشروع للعربيّ في هذا السياق استدعاء عبارة آبا إيبان بأن العرب "لا يفوّتون أي فرصة لتضييع الفرص"، لكن ليس فرص السلام كما تروّج إسرائيل وتدّعي، وإنما فرص اتخاذ أي موقف إيجابي لصالح القضية الفلسطينية ومواجهة الغطرسة المتواصلة لإسرائيل وعنصريتها الاستعمارية، بل من الجليّ أنها لا تجدّ أصلًا في ذلك فرصة ينبغي استغلالها، لأنها لم تعد تتعامل مع إسرائيل كعدوّ محتلّ، ولعل هذا هو المصداق الوحيد لدعوى كوشنر، بأن الصراع العربي والإسرائيلي في مراحله الأخيرة. 

 

أبارتهايد كامل الأوصاف

عزمي بشارة في الإجابة على سؤال "ما العمل؟" إزاء صفقة ترامب-نتنياهو