01-أبريل-2019

الخطاط الباكستاني فردوس

لم تختفِ ظاهرة الفخر بالنفس التقليدية من الشعر العربي الحديث، بل على العكس، ازدادت ظهورًا وبروزًا، وتم التعامل معها كما لو أنها ظاهرة طبيعية، شعرية على وجه الخصوص، على اعتبار أن الشاعر لم يفقد أيًّا من صلاحياته المطلقة الممنوحة له عبر التاريخ منذ أن حقّ لنفسه ما لا يحق لغيره! لكن الشعر الحديث أضاف للشاعر صفات وصلاحيات أخرى أكثر إطلاقية، مثل: الألوهة. فإذا اعتبر المتنبي نفسه نبيًا على العالم، فقد اعتبر الشاعر الحديث نفسه إلهًا. يقول نزار قباني: "ماذا نقول للشاعر، هذا الرجل الذي يحمل بين رئتيه قلب الله، ويضطرب على أصابعه الجحيم؟ وكيف يعتذر لهذا الإنسان الإله الذي تداعب أشواقه النجوم؟".

درجت ثقافة العرب منذ القدم على عدم مساءلة "أنا" الشاعر العظمى، إذ إن الشاعر لا يُسأل

درجت ثقافة العرب منذ القدم على عدم مساءلة "أنا" الشاعر العظمى، إذ إن الشاعر لا يُسأل، بل يقول فقط، ويتعين على الخلق تفسير ما يقول: "أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها ويسهرُ الخلق جرّاها ويختصمُ".

اقرأ/ي أيضًا: من مختصرات التاريخ الجزائري

بدت صفات الشاعر الإلهية لصيقة به كأنها عضوٌ من أعضائه، كأنها طبيعة، بل كأنها طبيعته، وتواتر الشعراء على إبرازها وتأكيدها مرة تلو أخرى، ولم تستطع الكتابة رغم عمرها المديد أن تبدد هذه الصيغة الشعرية الكبرى، بل عدّلت في صياغتها، فلم تعد تجمعها المفردات، بل المعنى.

عندما رأى محمد مهدي الجواهري أن لقب "الشاعر الكبير" راح يُطلق على الكثيرين بمن فيهم هو نفسه، وأنه بهذا تساوى معهم في "الكبر"، كان أن أطلق على نفسه اللقب الجامع المانع وهو "شاعر العرب الأكبر" وشاع اللقب في ثقافة العرب المتشربة حتى التخمة بـ"الأنا" العظيمة كحقيقة واقعة، وانتشر بلا سؤال عن الأسباب الموجبة لمنحه ذلك اللقب، ولماذا منح له وليس لسواه من معاصريه مثلًا، وقبل ذلك، لماذا يُطلق أصلًا؟

الثقافة العربية الحديثة، غالبًا، بلا سؤال. لذلك وُزّعت الألقاب والحصص والمراتب. الأمر الذي أدى إلى استفحال ذلك التشوه الكبير الذي يسمى "الشعر العربي الحديث"، أو "شعر الحداثة"، فكان الشعراء يكتبون ما يرد خاطرهم مع ضمانات عليا بأن لا مساءلة ثقافية حول جودة نتاجهم! وكيف يمكن أن يُسألوا؟ أليست هذه "الأنا" العملاقة التي كرسوها ولم ينفكوا يفعلون ذلك بلا هوادة، هي ذاتها "أنا" المستبد التي من خلالها طغى وبغى؟ إنها هي ذاتها. فكما أن الشاعر لا يُسأل عن معنى قصيدة، وأنه يحقّ له ما لا يحقّ لغيره، وأنه جعل "الأنا" المتورمة تدخل العمق الثقافي حتى بدت "أنا" طبيعية، وأنها يجب أن تكون هكذا، وأن السؤال ليس غير وارد فحسب، بل إن له تبعات خطيرة! وحيث ذلك، فمن الأولى أن المستبد لا يُسأل. إذ إن "أنا" الشاعر هذه انتقلت طبيعيًا وثقافيًا إلى المستبد، بل صنعته! فالمستبد هو "أنا" ضخمة ومتورمة وعملاقة.

ظاهرة "الأنا" واحدة من أكبر الظواهر الشعرية التي أسست لظاهرة المستبد في العصر الحديث

اقرأ/ي أيضًا: أسرار الخلود الحديثة

إنه، غالب الظن، "أنا" في أكثر تشوهاتها تجليًا! لو قارنا بين الصفات التي كان يغدقها الشاعر القديم على ممدوحه الأمير، أو الملك، أو الحاكم بصفة عامة، وبين الصفات التي أغدقها الشاعر الحديث على نفسه، فإننا نجد أنها هي ذاتها: صفات الحاكم هي ذاتها صفات الشاعر. لكن السيئ هنا أن الذي يفعل ذلك هو الشاعر الحديث، أو شاعر الحداثة! ظاهرة "الأنا" واحدة من أكبر الظواهر الشعرية التي أسست لظاهرة المستبد في العصر الحديث.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

في نقد الثورة

الإعلام كأداة ابتزاز للديمقراطية