27-سبتمبر-2022
لوحة لـ مارتيروس سريان/ أرمينيا

لوحة لـ مارتيروس سريان/ أرمينيا

للروائح سحر اختزال الوقت والأمكنة.

كلما حضرت قهوتي في الصباح، هناك لحظة مغبشة يختلط عليّ فيها كل شيء، هي على الأرجح تلك اللحظة التي تصل فيها رائحة القهوة إلى منطقة محددة في الدماغ، تلك المنطقة التي أسماها ميلان كونديرا "الذاكرة الشاعرية". في تلك اللحظة، أقف مشدوهة في مطبخي، وأنا أسمع صوت أبي وأشعر بحضوره وبحركته من حولي. يطبع قبلة على خدي. أشم رائحة القهوة ورائحته هو: مزيج من عطره الصباحي الوفير، ومعجون حلاقته، وتبغه، وقهوته. 

ثم تزول اللحظة، أشرب قهوتي ولا يحيلني الطعم إلى شيء. الرائحة فقط لها كثافة تكفي لقتلك حنينًا بلحظة واحدة.

 

أمرّر أصابعي في الحبقة الصغيرة التي اشتراها لي زوجي، هو يعرف أنني أحب الحبق. لكنه لا يعرف أنه كلما عبقت هذه الرائحة في صدري، رأيت أصابعي أصغر، وشممت رائحة أمي وشعرت بخصلات شعرها على كتفي وبأصابعها الطويلة على أصابعي. تنحني، تهز "نمنامتها" كما تسميها، تغمض عينيها، وتتنشق، وأنا أسترق النظر اليها وهي غائبة هكذا، أشمها هي، تمتزج رائحة الحبق بعطرها الخفيف كما تحبه، برائحة شعرها النافذة، وبرائحة المرطب المنعشة على جلدها اللامع. أسمع كلمات قالتها حتمًا ذات يوم، أشياءً تشبه الحب، هي التي لم تنطق بغير الحب يومًا.

 

نبت في حديقتي جبٌّ من الوزال، تفتق كشموس صغيرة، وملأت الرائحة الهواء. كأنها أفرغت المكان من رائحته وملأت شقوق الوقت. أشم الرائحة المختلطة بندى الصباح. أنا الآن على طريق ضيعتنا في منتصف الربيع. يدي في يد عمتي، ثبتت منديلها بقطعة قماش بيضاء مثلثة، يدها الأخرى في خاصرتها كعادتها حين تمشي. ها هي تخبرني بصوتها الهامس عن فوائد الأكل الصحي، تنفعل فتبدو تلك العبسة الخفيفة في جبينها، فيما يتحرك جسدها الصغير بخفة وهي تقص لي زهوري المفضلة بمقص جنينتها الأخضر. في جنينتها خس ونعنع وبندورة وبقدونس وبقلة. تخبرني أن الصحة تبدأ من الطعام. أضحك، أسخر من حرصها الزائد وأقول بثقة الشباب المتعالية: "نريد أن نعيش!". تضحك عمتي، تهز رأسها وتمد يدها بباقتي الجاهزة. أريد أن أحضنها الآن. أن أقول لها إنها معجونة بالجمال والطيبة. إنها أجمل من زهوري الصفراء. لكن الباقة تتلاشى. ويفصلني عن وجهها في الذكرى غشاوة مالحة. لم تعش عمتي طويلًا برغم أنها كانت تأكل أكلًا صحيًا.

 

هكذا، تفككني الروائح عن المكان وتحرك الأزمنة من حولي وتحركني فيها. أشم الخبز الخارج من الفرن، فأرجع إلى الغرفة "الأرضية" في بيت جدي، يختفي ذاك الخط في جبيني وتقصر قامتي وتتضخم أحلامي، فيما جدتي "تلوح" العجين وتلصقه على صاجتها فيصير أرغفة.

 

أشم رائحة الأرض بعد الشتوة الأولى، فأرجع الى غرفتي في بيتنا، واقفة على حافة الشباك، ديوان محمود درويش في يدي وقلبي في فمي، أترصد قصيدتي الأولى عن المطر وهي تتشكل على مهلها في رأسي.

أضع القمح في الماء، وما إن تلتقي الحبات الجافة بالماء المغلي، حتى تُسمعني الرائحة أصوات الأولاد يتشاجرون فيما العائلة الكبيرة مجتمعة في يوم "السليقة".

 

أشم رائحة الحطب المحترق في مدافئ البيوت في حينا الفرنسي، فأرى هيكل جدتي الضئيل، يصعد بالحطبات على الدرجات القليلة، ثم أراها منحنية أمام المدفأة، منشغلة بها لدقائق، ذاك الانشغال الذي يسبق الدفء.

 

تهديني جارتي خصلة من ياسمينتها الشرقية كما تسميها، أقربها من أنفي مع أنني أعرف أنها تسبب لي حساسية. لكنني أريد أن أرى طيف ذاك الشيخ وهو يتوعد لنا ان اقتربت أيادينا من ياسمينته أو ليمونته. كان جدي يقول إن هاتين الرائحتين تضيئان لياليه. لا لم يكن شاعرًا، كان عاشقًا للحياة. أليس هذا هو الشعر في النهاية؟ أن ترديك الحياة تعبًا كما فعلت بهذا الرجل، ثم تظل تحبها، ويظل قلبك طفلًا وروحك خفيفة حتى حين يصير لك عشرات الأحفاد؟ كانت الحياة عروس جدي التي لم تنقد له يومًا. لكن رائحة كانت كفيلة بإضاءة لياليه. هل كان يعرف أن حكاياته أضاءت طفولتي؟ أن بياض وجهه لا يزال يذهلني حين يأتيني في الحلم؟ أفتح عيني، فلا أرى جارتي. سأهديها غدًا باقة توليب أنيقة حتى لا تظنني مجنونة. على الأقل هذه الزهور لا رائحة لها. الأناقة أن تكون بلا ذاكرة، ألا تقتحم ذاكرة الناس.

 

منذ أيام، سمعت تلك الأغنية. كنت جالسة في مطعم الشركة حيث أعمل، وخرج صوت أم كلثوم من هاتف أحدهم: حكم علينا الهوى، نعشق سوا، ونذوب سوا..

لم تفعل الأغنية شيئًا، لم تخترق أكثر من سطح الذاكرة، إنما بما يكفيها فقط لتستدعي ذاك العطر القديم بغير قصد. وحينها فقط، حين ملأت الرائحة صدري، رحت أتفكك، والأزمنة والأمكنة تتفكك، ولم يبق مني في المطعم سوى أذنين تستمعان لأغنية جميلة.