23-سبتمبر-2015

خيام اللامي، تامر أبو غزالة، بشار فران، خالد ياسين، موريس لوقا

دائمًّا ما أنظر إلى العلاقة بين الشعر والموسيقى على أنها أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية. ولذلك نجد أن ابن رشيق في العمدة يقول: "الموسيقى حلّة الشعر. فإن لم يلبسها طويت". توقفتُ كثيرًّا أمام ألبوم "الألف أينما ارتمى – تسجيلات نوى" الصادر في الرابع من أيلول/سبتمبر 2015، وخصوصًّا حول تلك الحالة ما بين تبادل الأدوار بين النصّ والموسيقى.

"هولاكـو"، التي تعود كلماتها للشاعر الراحل سركون بولص، تعطي لألبوم "الألف أينمى ارتمى" مساحة من السِحر والغموض معًا

الألبوم نتاج فريق تكوّن على يد 5 موسيقيين يشغلون حيّزًا في طليعة الموسيقى المستقلة في الوطن العربي؛ فقد جاء اسم الألف من الأحرف الأولى لأسماء الأعضاء: خيام اللامي (عود)، وتامر أبو غزالة (غناء وبزق)، وبشار فرَّان (جيتار باص)، وموريس لوقا (كيبورد وإليكترونيات)، وأخيرًا خالد ياسين (درامز وإيقاعات).

يُقال إن الجواب يُعرف من عنوانه، فالألبوم هو نتاج حالة ثقافية تستمد جرعتها من مساحاتٍ عدّة. إذا كان الشعر هو مفتاح السر في الألبوم، فإن المقطوعة الأولى هولاكـو التي تعود كلماتها للشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944 – 2007) تجعل من الألبوم مساحة من السِحر والغموض معًا. 

من الوتر الأولى تتحول الموسيقى إلى ساحة قتال، كأن ذلك الفارس يمتطي جواده ويعلن انتصاره على الشر نفسه: "خُيولي أخَفُّ مِنَ الرِّيح/ سَنابِكُها تَقدَحُ الشَّراراتِ/ إذْ نَدْخُلُ المُدُنَ/ الحَرْبُ تَسْتَلقي / كالعَروسِ بانتظاري/ والحَتْفُ يَتَكلَّمُ بِاسمي فأنا هولاكو: سَيْفٌ في غِمدهِ لا يَسْتَريحُ". موسيقى طازجة كتلك التي تعزف في ساحات الحروب بلا مساحيق تجميل أو رذاذ سوائل معقمة.

اقرأ/ي أيضًا: داوود عبد السيد.. لكل منّا قدرات غير عادية

إنها الموسيقى عندما تنفتحُ على جروحنا اليومية كمن يستلّ المشرط من قاع الوجع. واستمرارًا في تبادل المواقع بين الإيقاع والمعنى تأتي مقطوعة "الجثة" لسركون بولص لتؤكد على أن الموسيقى وحدها لديها القدرة على وضعك في لحظة انتهاء الزمن، وأنت ترى أمامك هذا الكم من الأشلاء والجثث. نقرات عودٍ خفيفة تتواتر وتتصاعد حتى تصل لذِروتها. فنجد الصوت يتهدج كأن تلك الآلات الموسيقية تقتطع من لحمه في كل سحبة للنفس: "عذّبوا الجثّة/ حتى طَلعَ الفجرُ مُنهَكًا وقامَ الديكُ يحتجّ. غرسوا في لحمها السنانير. جَلدوها بأسلاك الكهرباء علَّقوها من المروَحة/ عندما تعبَ الجلّادونَ أخيرًا/ واستراحوا، حرّكت الجثّة إصبعَها الصغير/ فتحتْ عينيها الجريحتين/ وتمتمَت شيئًا/ هل كانت تطلبُ ماءً؟ هل كانت تُريدُ خبزًا يا تُرى؟ هل كانت تلعنهم أم تُطالبُ بالمزيد؟ ماذا كانت الجثّة تُريد؟". 

بالإيقاعات المضطربة والتلكؤ في نطق بعض الكلمات، عملت الفرقة على تقديم شحنة من الخوف والاضطراب

حاول الفريق خلال إيقاعاته المضطربة وإلى التلكؤ في النطق ببعض الكلمات إلى توفير تلك الشحنة من الخوف والاضطراب. إن الموسيقى هنا تغرف من نهرٍ بلا ضفاف؛ حيث يتكامل القرع الخشن لموسيقى موريس لوقا الإليكترونية مع عود خيام اللامي، ويتصاعد حتى الإيقاع تدريجيًّا حتى يصل إلى ذروة النبرة.

في معظم الأوقات، أستمع إلى قصيدة درس من كاماسوترا للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941 – 2008) بنقرات عود الثلاثي جبران، لكن هذه المرة لعبت الموسيقى الالكترونية حالة خاصة ما بين الشجن والحداثة. يقول درويش: "دَرْسٌ مِنَ كامَاسُوترا/ بِكوبِ الشَّرابِ المُرَصَّعِ باللازَوَردِ/ انْتَظِرْها، بِصَبْرِ الحِصانِ المُعَدّ لِمُنْحَدَراتِ الجِبالِ انْتَظِرْها،/ بِذَوْقِ الأميرِ الرَّفيعِ البَديعِ/ انْتَظِرْها/ بِسَبْعِ وَسائدَ مَحْشُوَّةٍ بِالسَّحابِ الخَفيفِ/ انتَظِرْها،/ بنارِ البَخُورِ النِّسائيِّ مِلءَ المَكانِ/ انتَظِرْها". 

لكن تلك الرومانسية المفرطة ما بين الزهد والجنسانية سرعان ما تتحول في هذا الألبوم إلى موسيقى حيّة من لحمٍ ودم تنبضُ بكل ما هو حيوي ونابض. ربما تكمن عبقرية تلك المقطوعة في قدرتها على عزف وتيرة (المحو) فالمغامرة هنا للإصرار على تفادي الكليشيه الدرويشي في الموسيقى والنصّ أيضًّا. ومن شاعرية الانتظار إلى التورط في حلاوة الفلكلور في مقطوعة يلا تنام حيز تقطع الموسيقى رحلتها الخاصة في محيط الأرق وصولًا إلى زهوة النوم الموعود. حالة فريدة يتشابك فيها عزف فران على الباص مع صوت أبي غزالة كأنها نصٍ موازٍ لمديح الأرق: "قوم يا بيش/ قوم ولو نعسان/ قوم يا بيش/ قمر يدور ويعيش/ قوم لا تنام/ طير وحمام/ راح الريش/ قوم لا تنام يا بيش".

"أينما ارتمى هو الإصدار الأول للفرقة، وقد قاموا بإنتاجه بأنفسهم وتسجيله بين بيروت والقاهرة في 2014. وقد جاء عملًا يعكس زمنه وبيئته، فهو ألبوم متحول يتخذ أشكالًا متعددة ويأخذ المستمع عبر تقلبات ومنعطفات غير متوقعة. وبينما يستمد أعضاء الفرقة الإلهام من تأثيرات واسعة النطاق، فإن طاقة موحدة تجمعهم، فينتج عن ذلك الخليط مساحة موسيقية تبدو مألوفة وجديدة في آنٍ واحد".

اقرأ/ي أيضًا: "خطاب إلى الملك".. الجرح الكردي المهاجر

هكذا كتبت الشركة المنتجة عن الألبوم. لكن مقطوعات عدّة تؤكد على رغبة مباشرة في جعل الموسيقى الحداثية لغة تواصل بين الأفراد، فالأداء الأشبه بالمسرحة في مقطوعة "وطـي الصوت" يجعل من الأداء الكاريكاتوري سخرية غير معلنة عن كل الأوضاع البائسة. تتفاوت مقطوعات الألبوم ما بين البهجة والحزن، وخصوصًّا في مقطوعتي "الاعتراف" و"الخطبة الأخيرة". ولأن التجربة من البداية أخذت مسارًا مختلفًّا، فإن مقطوعة الخاتمة "إيش جابكم هون؟" حملت مزاجًا خاصًا أقرب إلى السوريالية حيث يجد شخص حاله جالسًّا بينما يتمشى عنكبوتٌ في رأسه، والسلاحف تتأرجح فوق ظهره. 

على أي حالٍ، ليست الموسيقى وحدها هي الشيء المميز في الألبوم، بل هذا التناغم الساحر بين الغلاف الفني للفنان التشكيلي السوري اللبناني سمعان خوام، مع تصميم الخطوط والأحرف للمصممة سلمى شامل، كما تمت ترجمة النصوص كاملة إلى اللغة الإنجليزية بواسطة ناريمان يوسف. نعم إنها الموسيقى حينما تتداعى بلا هوادةٍ على الأذن.