03-يناير-2018

ضريح بويا عمر، أطلق عليه غوانتنامو المغرب وأغلق بعد حجم التعذيب الذي اكتشف داخله (فاضل سنا/أ.ف.ب)

للأضرحة جذور ضاربة في تاريخ المجتمع المغربي، إذ كانت لها أدوار روحية واجتماعية واقتصادية وطبية بارزة في حياة الإنسان المغربي سابقًَا، ورغم اندثار العديد من الأضرحة مع الوقت، بفعل عمليات التحديث والعصرنة، فإنه لا يزال العشرات منها يستقبل زوارًا كُثرًا في البلاد، فإلى اليوم تلقى إقبالًا من قبل طائفة غير قليلة من المغاربة وبعض الأجانب، الذين يقصدونها للاستشفاء من أمراض نفسية وجسدية، بعد أن يئسوا من علاج الأطباء، كما يقولون.

هناك العشرات من الأضرحة التي يقصدها المغاربة للتداوي من عللهم المزمنة، التي يرجعونها عادة إلى العين والسحر وغير ذلك وتتوزع هذه الأضرحة في كامل المغرب

ضريح "بويا عمر" كان واحدًا من أشهر الأضرحة التي يزورها الناس في المغرب بحثًا عن الشفاء، وهو يقع على بعد 50 كيلومترًا شمال مدينة مراكش، كان يلجأ إليه المئات من المرضى نفسيًا أو عضويًا كل سنة، لكن بعدما كشفت الصحافة المحلية والأجنبية عن أعمال "لا إنسانية"، تُمارَس بحق النزلاء المرضى بالضريح، حيث يتم تكبيلهم بالسلاسل الحديدية وتجويعهم وضربهم وأحيانًا الاعتداء عليهم جنسيًا، اضطرت السلطات في المغرب إلى إغلاق الضريح في 11 حزيران/ يونيو سنة 2015، بقرار من وزير الصحة المغربي الحسين الوردي.

غير أن هناك العشرات من الأضرحة الأخرى التي يقصدها الناس في المغرب للتداوي من عللهم المزمنة، التي يرجعونها عادة إلى "المس" و"العين" و"التثقاف" و"السحر" و"التوكال"، وتتوزع هذه الأضرحة في مختلف ربوع المغرب، بما في ذلك المدن الكبرى كمدينة الرباط والدار البيضاء، بدءًا من "سيدي بومجيمر" و"سيدي الحاج بن عاشر" و"سيدي عبد الله بن حسون" إلى "سيدي موسى" و"سيدي بليوط"، كلها أماكن يحج إليها الزوار، رجالًا ونساء، وفقراء وأغنياء، وأميين ومتعلمين، طمعاً في جلب عافية من سقم مزمن، أو على الأقل من أجل الحصول على راحة نفسية لم يجدوها في صالونات العيادات النفسية.

اقرأ/ي أيضًا: الطرق الصوفية بالمغرب.. دين وطقوس وسياسة

بل إن هناك تخصصات علاجية حسب فئة الأضرحة، فعلى سبيل المثال النساء اللواتي يعانين من العقم يقصدن ضريح "سيدي عبد الرحمان" للحصول على بركة الإنجاب، أما الأطفال المرضى فتلجأ بهم أسرهم إلى ضريح "سيدي محمد مول الصبيان"، في حين يزور من يعتقدون بهم "مس" أو "سحر" ضريح "سيدي اليابوري"، وهكذا فلكل مقام اختصاص معين في نظر الناس المطبعين مع "ثقافة الأضرحة".

يتخصص كل ضريح في المغرب لعلاج مرض معين، كما يُشاع، وبعض هذه الأضرحة تعود إلى حقب سابقة عن الفترة الإسلامية لكنها ازدهرت خاصة مع ظهور الزوايا الصوفية

ويعود تاريخ الأضرحة في المغرب، حسب المختصين، إلى حقب سابقة عن الفترة الإسلامية، وهو ما يفسر وجود أضرحة لليهود وأخرى ذات طابع وثني، غير أن معظم الأضرحة الموجودة حاليًا ظهرت في سياق انتشار "الزوايا الصوفية" في المنطقة المغاربية خلال القرون القليلة الماضية، كما يذكر الباحث السوسيولوجي نور الدين الزاهي في كتابه "المقدس والمجتمع"، حيث كانت الزوايا تلعب أدوارًا أساسية في تنظيم حياة المجتمع المغربي، ليس فقط دينيًا وإنما أيضًا اقتصاديًا ومجتمعيًا وسياسيًا، في أوقات شهدت فيها المنطقة ظروفًا قاسية، تخللتها الكثير من المجاعات الماحقة والحروب الأهلية والأوبئة القاتلة.

في هذا الإطار نشأت ثقافة "تقديس الأولياء والزوايا والتبرك بهم" بين المغاربة، من أجل دفع الأخطار المحدقة بهم من كل جانب آنذاك، ولجلب "البركة" في أرزاقهم الشحيحة وأجسادهم المنهكة بالمرض، إلا أن العلاقة المقدسة مع الأولياء لم تنته بمجرد موتهم، بل تطور الحال إلى تقديس قبورهم، باعتقادهم أنهم "صالحون" يتفردون بكرامات وقدرات فوق طبيعية، ولا يمكن للموت أن ينال منهم في تصور المؤمنين بجدوى الأضرحة، فالولي بالنسبة لهؤلاء بمثابة وسيط يتميز بـ"الأهلية الإيمانية" لإيصال طلباتهم المستعجلة إلى الإله.

اقرأ/ي أيضًا: 6 من أبرز الأولياء المغاربة في مصر.. روحانية متصلة بين المشرق والمغرب

يفسر الباحثون استمرار ارتياد شرائح واسعة من الناس أضرحة الأولياء طلبًا للعلاج إلى فشل السياسة الصحية بالمغرب

ومن ثمة صار للأضرحة أدوار اجتماعية واقتصادية وصحية وجنسية داخل النسيج المغربي، وليست مجرد قبور مزخرفة يحيط بها بناء عمراني، وإذا كانت تلك الوظائف قد بات معظمها في طي النسيان في ظل سيادة مؤسسات الدولة، فإن "الأدوار الاستشفائية" للأضرحة لا تزال إلى اليوم سارية، إذ تتجه طائفة غير قليلة من الناس إلى مقامات الأولياء لعلاج أمراضهم النفسية والجسدية المستعصية، كما تقصد النساء العاقرات "ضريح الولي" للشفاء من العقم.

هذا ويفسر الباحثون استمرار ارتياد شرائح واسعة من الناس أضرحة الأولياء طلبًا للعلاج، إلى فشل السياسة الصحية بالمغرب، حيث لا يجد المواطنون، ولا سيما البسطاء منهم، التطبيب الناجع في المستشفيات، نظرًا إلى التدهور الحاصل في المنظومة الصحية بالبلاد، وبالتالي يضطر الناس إلى البحث عن بدائل أخرى قصد الاستشفاء، كـ"الطب الشعبوي" وأضرحة الأولياء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"إيديا" ليست الاستثناء.. الحق في الصحة مهدد مغربيًا

من المسؤول؟.. أسعار الأدوية بالمغرب تضاعف ثمنها الدولي