06-ديسمبر-2015

انتقلت الفلسفة اليونانية إلى العرب عن طريق مدرسة الإسكندرية (Getty)

في الخميس الثالث من الشهر الماضي تشرين الثاني/نوفمبر، كما في كل عام منذ 2002، تحتفل اليونسكو باليوم العالميّ للفلسفة. إنها خطوة، في ذهن المنظمة، لتكريم الفكر الحر وتبادل التراث الفلسفي بين الشعوب وإنارة العقول بأفكار جديدة وتشجيع التحليلات والبحوث والدراسات الفلسفية للقضايا المعاصرة المهمة من أجل الاستجابة على خير وجه للتحديات المطروحة أمام البشرية.

يكاد يجمع المستشرقون، على تلاوينيهم، أن العرب لم يتفلسفوا بالمعنى الدقيق لمصطلح الفلسفة

في هذا الحيز، يحسن بنا، أن نطرح على المتلقي العربي شطرًا من الجدل المثار حول تراثه الفلسفيّ، سيما فيما يتعلق بأصالة هذا التراث نقلًا وعقلًا وما يتصل من أقوال بهذا الشأن. نطرح، هذا الجانب، ليس تذكيرًا ولا احتفاءً بطبيعة الحال بل للقول إن الشاغل الفلسفي ليس طارئًا على الحضارة العربية، بل يمكن عدّه سياقًا تفكيرًا خصبًا ومتداخلًا ومتعدد التماسات، يعكس في جوانب أساسيّة منه، إمكانات هذه الحضارة.
 
نقول: يكاد يجمع المستشرقون، على تلاوينيهم، أن العرب لم يتفلسفوا بالمعنى الدقيق لمصطلح الفلسفة، بل كانوا، ونعني الفلاسفة المشهورين، بداية مع الكندي والفارابي وصولًا إلى ابن الطفيل وابن رشد مرورًا بالشيخ الرئيس، نقلة للمدارس اليونانية على اختلافها من طاليس الملطي حتى أفلوطين. كانوا، وهو الرأي السائد، نقلة وتلاميذ محصوا وحققوا أقوال اليونانيين، غير أنهم لم يبدعوا مشكلات فلسفية أصيلة بل كانوا عالة على إشكاليات أساتذتهم.
 
وقد رد المستشرق الفرنسي رينان أسباب عجز العرب عن إنتاج تفكير فلسفي مستقل إلى ما يشبه طبائع سامية لا تميل إلى التعقيد والتركيب بل إلى التبسيط. وهي الطبائع التي ابتدعت التوحيد. ويضيف أن أهم عمل للساميين هو تمكنهم من تبسيط الفكر والعقلية البشرية، وتخلصهم من التعدد والتنوع والتعقيد الذي كان يهيم فيه تفكير الآريين الديني". حتى إن المفكر الإنجليزي برتراند راسل لم يأت على ذكر الفلاسفة المسلمين في سياق عرضه لمنابت الفلسفة الحديثة في مؤلفه الشهير "حكمة الغرب".

إذن، هل ينبغي تلمس أصالة فلسفية عربية إسلامية في سؤالات لم تكن مطروحة على العقل الفلسفي اليوناني؟ نعني سؤالات تتسم بالجدة والفرادة، وهو الأمر الذي يكاد يكون شاقًا العثور عليه في السياق المشائية والرواقية الإسلامية، أم أن الأصالة الفكرية/الفلسفية الإسلامية ليست في ذلك السياق التوفيقي لتلامذة المشائية والرواقية والدهرية من الإسلاميين، بل في دوائر علم الكلام الأشعرية والمعتزلية. وذلك ما يميل إليه باحثون عرب معاصرون.

يميل باحثون عرب معاصرون إلى اعتبار الأصالة الفلسفية الإسلامية تكمن في دوائر علم الكلام الأشعرية والمعتزلية

إن استقراء عمليات الترجمة وطبائعها وسياقاتها الجغرافية وأحوال الناقلين، مضافًا إلى محاولة تفهم شخوص الناقلين الأوائل للفلسفة اليونانية فضلًا عن نوازعهم المعرفية، يشكل عاملًا أساسيًا في الرؤية إلى تراث فلسفيّ إسلاميّ بهذا الحجم. ومن الاستقراء نتلمس تلك الدوائر الوسيطة التي ساهمت في نقل تلك الفلسفة. ونقول وسيطة إذ إن شطرًا من عمليات النقل المبكرة، لم تحدث بطريق مباشر. وهذا بالغ الدلالة، إذ يمكّننا، من خلال عمليات مقارنة للفلسفة الإسلامية كما قدمها فلاسفة الإسلام بالمتون اليونانية فيما بعد، من تلمس الزوائد والتوفيقات والإكراهات التي أقحمت على مفاهيم وأفكار اليونان الأصلية. يبدو هذا بالغ الوضوح، مثالًا لا حصرًا، في شروحات ابن رشد على أرسطو وهي الشروحات التي خلّص فيها قاضي قرطبة، فلسفة أفلاطون من أثر الأفلاطونية المحدثة واستطاع تقديمها بعد أكثر من أربعة قرون من تماس المسلمين مع فلسفة اليونان في شكلها الأقرب للمشائية الأرسطوطاليسة.

يخالف علي سامي النشار في كتابه "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" عامة الآراء التي ترد بدايات التفكير الفلسفي في الإسلام إلى القرن الثاني، مستندًا إلى أسفار صدر الدين الشيرازي فيما ينقله هذا الأخير عن نصّ للسهروردي المقتول حيث يقول: "إنّ المتكلمين الأوائل في عصر بني أمية عرفوا الفلسفة اليونانية حين نقلت بعض كتبها إليهم، ولكنها ليست ذلك النوع المشائي الذي عرفه المسلمون فيما بعد"، ويشير إلى طبيعة كتابات المتكلمين الأوائل من أمثال أبي الهذيل العلاف وهشام ابن الحكم، المتكلم الشيعي المعروف، من جهة احتوائها على مصطلحات فلسفية تومئ إلى حركة اتصال سابقة عن القرن الثاني الهجري تصير معها فكرة النقل والاتصال بالفلسفة اليونانية منذ المائة الأولى، فكرة أكثر مقبولية. 

وما يحفز رأي الاتصال المبكر في المائة الأولى ما نقله التراث عن شخصية الأمير الأموي خالد بن يزيد الذي اتجه إلى علوم الصنعة بعد أن حُرم الخلافة. وقد أشار بعض المستشرقين، وهو رأي يحتاج إلى تمحيص، إلى أن هذا الأمير الأموي هو من أمر بترجمة كتاب "الأورغانون" أي مجموعة كتب أرسطو المنطقية.

في العموم، يمكن إجمال طرائق انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي بسبيلين، مباشر وغير مباشر: أما المباشر فهو عن طريق مدرسة الإسكندرية التي كانت لا تزال قائمة حين فتح المسلمون مصر. وقد عرف العرب أعلام تلك المدرسة ومنهم، مثالًا لا حصرًا، اصطفن الإسكندري والطبيب بولس الأجانيطي، كما عرفوا مناهج الدراسة في تلك المدرسة من منطق أرسطوطاليس إلى جوامع كتب جالينوس المتأخرة.

كانت ترجمة الفلسفة لدى العرب فعلًا أكثر تعقيدًا من كونه نقلًا من لسان إلى آخر، بل عملية إبداعية مكتملة 

ومن الإسكندرية توسعت الدائرة. يشير المستشرق ماكس مايرهوف في كتابه "من الإسكندرية إلى بغداد" محيلًا إلى الجذور، نقلًا عن نص للفارابي "أن التعليم انتقل بعد ظهور الإسلام من الإسكندرية إلى أنطاكية وبقي بها زمنًا طويلًا إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب فكان أحدهما من حران والآخر من مرو، فأما الذي من أهل مرو فتعلم منه رجلان أحدهما إبراهيم المروزي، والآخر يوحنا بن حيلان، وتعلم من الحرانيّ إسرائيل الأسقف وقويري، وقد صار الأخيران إلى بغداد". 

أما سبيل انتقال الفلسفة بطرق غير مباشرة فمردها بحسب أغلب الباحثين إلى بضعة احتمالات منها المناقشات الشفوية المبكرة بين المتكلمين الأوائل وبين رجال الكنيسة إذ كانت كنائسهم منتشرة في العالم الإسلاميّ من يعاقبة ونساطرة، ومنها أيضا احتمال تردد المسلمين على مدارس مبكرة كانت ملحقة بالديرة والكنائس وكانت تعرف بالـ"إسكول" وكانت هذه المدارس تدرّس قسطًا من اللاهوت مختلطًا بالفلسفة، أو احتمال انتقال بعض الأفكار الفلسفية عن طريق الغنوص الشرقي الذي كان يحمل في جذوره عناصر من الفلسفة اليونانية.

في كل الأحوال، يبقى الجدل مفتوحًا في هذا الشأن، باعتبار أن ترجمة تراث فلسفي ضخم واستيعابه في حضارة ناشئة، ليست عملية بسيطة، بل إن النقل بحدّ ذاته يعد مفهومًا يتقولب ضمن الظرف التاريخيّ وعوامله المختلفة متشكلًا بها ومعها. بهذا المعنى تكون الترجمة فعلًا أكثر تعقيدًا من كونها عبورًا ساذجًا أو نقلًا من لسان إلى آخر، بل هي عملية إبداعية مكتملة من المتعذر الرؤية إليها، وإلى منتجها في الحضارة الناشئة، دون دراسة تأخذ بالاعتبار كل دوائر التأثير والتأثر والتماسات بين الحضارة الإسلامية وما سبقها من دوائر فكرية يونانية أو فارسية أو هندية.

اقرأ/ي أيضًا:

"الفاروق" لقب المسيحيين السريان للخليفة عمر

الدراسات الثقافية الفلسطينية.. أداة مقاومة