06-يناير-2022

لوحة لـ نيكولاس دي ستايل/ فرنسا - روسيا

خمس سنوات مضت على آخر اتصال حميمي بينها وبين زوجها، منذ ذلك الوقت وهي محرّمة على الرجال لا يستفزّها، ولا يستطيع الولوج إلى عالمها واقتحام وحشة ليلها ووحدة فراشها وخلو وسادتها على سرير نومها أيّ رجل من هؤلاء الذين يحومون حولها، ويسيل لعابهم لاستنشاق عطر أنوثتها التي بدت أشهى وأقوى مما يحتمله الرجال الغارقون في أوهامهم.

تلهو في تأملاتها، وحيدة مع صغيريها، تحرسهم من التشرد والعبث، وتمنحهم كل أسباب العيش المرفّه. تغرق بإرادتها في العمل والتدريس وإعداد الأبحاث والمشاركة في المؤتمرات العلمية والندوات والاحتفالات الرسمية واللقاءات التلفزيونية، والمراسيم الاجتماعية، ولا تمنح قلبها فرصة أخرى للعيش كما تعيش الأنثى، مقتنعة أنها جربت الحب مرة واحدة والزواج مرة واحدة، وليس باستطاعتها أن تكرر التجربة مرة أخرى، فكل شيء لديها يحدث مرة واحدة فقط، كهذا العمر الذي يسحبها إلى ظلام الجنون المفضي إلى الصمت والجوع والعطش والتفكير الصاخب عندما يثور الكامن في أعماقها فيذروها رمادًا في فضاء غرفتها الخالية إلا من الأطياف والتصورات واشتياقات الندى والاغتسال والعوم على مساحة من الشهوة لجسد رجل تشتهيه.

لا أدري كيف اقتحمتُ عالمها المسيج بالأسوار العالية من المهابة والرصانة والطهر؟ قذفتها القصائد إليّ موجة مبتكرة شهيّة، تعجبها تلك اللغة وتلك الصور، فتعلق عليها بقولها: "كلماتك تدوّخني". تسترسل في الحديث كأنها تعرفني منذ سنوات. أصبحتْ شغلي الشاغل ليلي ونهاري صباحا ومساء، أهاتفها في كل وقت نتحدث لفترات طويلة في كل ما يعنّ لصديقين أن يتحدثا ويفكرا معا بصوت مرتفع في كل شأن من شؤون هذه الحياة القاسية، نتحدث عن الحب، وعن الثقافة والشعر والكتب، وعن الرجال، وعن السياسة والاقتصاد، وعن الأصدقاء والناس أجمعين. لم نكن نستغب أحدًا سوى ما تعلق في حياتنا من ماضٍ يرشح جزء منه في كلّ مرة على هوامش الكلام.

غدت جزءًا من الوقت، لا شيء يشغلني عنها. تتسلل إليّ رويدًا رويدًا، وتفتت ما تكلّس من دمي، تضحك بشهية أنثى تدافع أنوثتها من الانزلاق في وهدة الفتنة والشوق والحبّ والاحتراق. أنثى كاملة مكتملة تعرف أنها تنام على ثمر ناضجٍ تضنّ به، ولا تريد أن يستنفده الرجال مرّة أخرى. تحرس نفسها وتحترس من كل موجة من كهرباء قد تضرب أعصابها في أية لحظة. كانت تعرف تمامًا كيف تنسحب عندما ترى الموجة الحارة قادمة إليها. مع أن تلك الخمس سنوات كانت كفيلة أن تعود بكرًا، وتأخذ كل أعضائها وضعها الطبيعي، كأنها تماما بكر لم تمسّ، ليمنحها ذلك فرصة التجدد مرة أخرى كغصن ندي أخضر على جذع رجل يحتويها.

خمس سنوات مرت، وهي تناضل دون أن تكون تحت رحمة رجل لا يعرف كيف يتناولها وجبة رومانسية في عشاء جميل وخفيف على ضوء الشموع المغرمة بها، تتأمل وحدها أشياءها، وتربي أعضاءها كأغصان شجرة أنيقة، تستمع إلى الموسيقى وحدها، وتشرب قهوتها صباحًا وحدها، تتأمل إشراقة الشمس وحدها، تناجي الله وحدها، وتغرق في صوفيّتها وحدها. تستمتع كل ليلة خميس بمشاهدة واحد من تلك الأفلام التي تهدهد أنوثتها وتربت شخصياتها على كتفيها وتمسد شعرها وتتحسس صدرها الممتلئ نشوة ورغبة، لأن تكون طليقة مفعمة بعطر يعبق في كيان رجل يستحقّها لتمنحه كلّها راغبة مقبلة منتشية.

هي الآن غائبة، لم تعد تتحدث معي، كانت حدثًا عاطفيًا جميلًا مرّ سريعًا دون الشتاء القارس ودون دفء الفراش ومتعة منتظرة. ربما شعرت أنني اقتربت من عالمها أكثر مما ينبغي لرجل أن يقترب، لعلها أدركت كم هو خطير أن تمنح امرأة سرها قبل جسدها لرجل. لم أعد أسمع صوتها عبر الهاتف، ولا تردّ على رسائلي العنيفة، ولا تستجيب لذلك الإلحاح الذي أمارسه لتظهر، انسحبت من الدائرة ببطء شديد لتتوه في ظلامها وظلمها مرّة أخرى. وبقيت وحدي أعالج ما خلّفته لي من قصة غير مكتملة لامرأة أردتها معي لتكون سمائي المنطلقة في رحاب الله. كسرتْ قصبة الناي، وأغلقت النوافذ دوني. ورحلت. فهلا صدقت حكمتها القاسية أن "الأشياء الجميلة تحدث مرة واحدة فقط؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

هستيريا الضحك

لم أنتبهْ إلى النّهاية

دلالات: