07-مايو-2021

جنازة الشهيد عمر القاسم 1989

تروى سيرته على جبين هذا الزمن في كل مدينة وشارع ومخيم. إنه عنوان الإنسان الصابر على المحن، إنه عنوان الصمود.

عمر القاسم ابن مدينة القدس المحتلة المولود في حارة السعدية بالبلدة القديمة في 13 تشرين ثاني/نوفمبر عام1941، درس الابتدائية في المدرسة العمرية القريبة من المسجد الأقصى وبعدها انتقل إلى المدرسة الرشيدية التي أنهى دراسته الثانوية فيها عام 1958. كانت الثانوية بمثابة معقل وطني ومركز للنشاط السياسي الذي تنطلق منه المظاهرات الطلابية التي تتحول إلى مظاهرات شعبية.

بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، كان لعمر القاسم دور في تنظيم المقاومة الشعبية بالقدس

عمل عمر القاسم مدرسًا في القدس، وفي نفس الوقت التحق بكلية الآداب بجامعة دمشق بالانتساب، وتخرج منها وقد حاز على شهادة الليسانس في الأدب الإنجليزي عام 1963.

اقرأ/ي أيضًا: مصباح الصوري.. شرارة الانتفاضة الأولى

بعد نكسة حزيران/يونيو، كان لعمر القاسم دور في تنظيم المقاومة الشعبية بالقدس، فقد ارتبط منذ صغره بالعمل الوطني بمرحلة دراسته الثانوية، إذ انظم إلى حركة القوميين العرب في عمر 17 عامًا، وقد انعكس نضاله على مهنته في التدريس حيث ربط التعليم بالتحريض السياسي، لذا كان المعلمون والطلبة في قلب العمل السياسي، ولم يغب عن أية فعالية وطنية رفضًا لاحتلال المدينة، وكان في مقدمة المظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال، وبسبب نشاطه السياسي والسري في صفوف حركة القوميين العرب أصبح على رأس قائمة المطلوبين في القدس إذ كان أول المستهدفين، ونجح بالإفلات من حملات الاعتقالات بعد تعرض منزله لأكثر من مداهمة بهدف إلقاء القبض عليه، وإزاء هذا الوضع وتفاديًا للاعتقال قرر مغادرة المدينة المحتلة إلى الأردن، حيث التحق بقواعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تأسست امتدادًا للفرع الفلسطيني من حركة القوميين العرب بنهاية 1967، وانتخب عضوًا في لجنتها المركزية، وهناك تلقى العديد من الدورات العسكرية إلى أن أصبح عضوًا في القيادة العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

تسلم عمر مسؤولية القطاع الأوسط في العام 1968، ودافع عن فكرة شن هجمات والدخول في مواجهة عسكرية مع الاحتلال انطلاقًا من شرق الأردن، لتكون قاعدة للانطلاق نحو الداخل الفلسطيني بعد تأسيس وإعداد الخلايا للعمل الفدائي.

"العبرة بالتنفيذ" هكذا قال عمر القاسم وليقرن الكلام بالفعل لقناعته بضرورة نقل العمل الفدائي إلى الداخل الفلسطيني اجتاز ليلة 28 تشرين أول/أكتوبر من العام 1968 نهر الأردن مع مجموعته الفدائية نحو الوطن، وكان الهدف جبال رام الله بهدف التمركز فيها لشن عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه، إلا أن المجموعة اصطدمت قبل أن تصل إلى هدفها بكمين إسرائيلي قرب بلدة كفر مالك، فوقع اشتباك مسلح انتهى بوقوع كافة أفراد الدورية في الأسر بعد نفاذ ذخيرتهم. في تلك الليلة أعلن ناطق باسم جيش الاحتلال أن القوات الإسرائيلية اشتبكت بالسلاح مع مجموعة قادمة من الأردن وتمكنت من أسر قائدها البالع من العمر 27 عامًا، وهو شاب من سكان مدينة القدس.

أخضع عمر ومجموعته لتعذيب قاسٍ، لكن هذا لم يمنعه في المحكمة العسكرية من إثارة قضية إلزام سلطات الاحتلال على التعامل معهم كأسرى حرب، وطالب المحكمة بالاعتراف بهم كأسرى حرب، وسرد ما تنص عليه القوانين والمواثيق الدولية مما أربك القضاة الإسرائيليين الذين عجزوا عن الرد عليه وأدعو أن فلسطين ليست بدولة، ولا تنطبق على الأسرى الفلسطينيين المواثيق الدولية، إلا أن عمر أصر على حضور الصليب الأحمر الدولي الذي سجل سابقة في هذا الإطار لتثبيتهم كأسرى حرب، وبعد عدة جلسات حكم على عمر بالسجن المؤبد مرتين و27 سنة بتهمة الانتماء للمقاومة والقيام بعملية عسكرية.

أصر عمر القاسم على حضور الصليب الأحمر الدولي لمحاكمته، وسجل سابقة في هذا الإطار لتثبيت نفسه ورفاقه كأسرى حرب

"في السجن، لا ينتهي دور المناضل، بل يبدأ، وهو نضال مكمل، ومترابط مع النضال الخارجي، ويجب أن نصمد، رغم الاختلال الحاصل في موازين القوى". من هنا انطلق عمر ليخوض تجربته الجديدة في العمل النضالي بصفوف الحركة الوطنية الأسيرة داخل سجون الاحتلال.

اقرأ/ي أيضًا: عماد عقل.. المشتبك من المسافة صفر

في شباط/فبراير 1969، أعلن عن انشقاق الجناح اليساري بالجبهة الشعبية واتخذ له اسم الجبهة الديمقراطية، انحاز عمر القاسم للجناح اليساري وأصبح من أبرز قادة الجبهة الديمقراطية وعضوًا في لجنتها المركزية ومسؤولها التنظيمي داخل السجون.

كرّس عمر القاسم ومنذ بدايات الأسر اهتمامه لتحويل السجون إلى أكاديميات وطنية، فعمل على إدارة حلقات نقاش حول الخيارات السياسية ومسار القضية الفلسطينية، بالإضافة لشرح الأدبيات الفكرية والفلسفية كما عمل على الترويج للبرنامج المرحلي الذي طرحته الجبهة الديمقراطية، ليتحول لاحقًا إلى البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ركز عمر القاسم اهتمامه على شؤون الأسرى وأوضاعهم، وقدم دراسات قيّمة لأوضاع المعتقلين، والتجربة الكفاحية للحركة الأسيرة والمراحل التي مرت بها، ساعدته في عملية التثقيف والتعبئة والإعداد النفسي والمعنوي للأسرى لمواجهة إدارة السجون لتحسين ظروف الاعتقال، ولعل أبرز ما كتبه عمر هو سلسلة مقالات تُشخّص أوضاع الأسرى داخل السجون ومراحل تطور الحركة الأسيرة، وكذلك تجارب إضرابات الأسرى، وقد كتبت تلك السلسلة في 34 مقالًا، بالإضافة إلى 126 كراسًا تناولت المراحل السياسية التي مرت بها الثورة الفلسطينية.

راكم هذا الجهد النظري حملات الاحتجاج داخل السجون فقاد عمر في العديد من المعتقلات مع الأسرى معارك الإضراب عن الطعام، وكان الحرص بالدرجة الأولى على الدور الوحدوي، ما خلق لعمر مكانة بارزة ومميزة داخل الحركة الأسيرة، وذلك بشهادة كافة الأسرى رغم اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية والتنظيمية.

بالإضافة إلى عمل عمر على بناء الجسم التنظيمي للجبهة الديمقراطية في السجون، عبر إقامة دورات تثقيفيه للكوادر، وتخصيص دورات لتجارب حركات التحرر العالمية في حرب التحرير الشعبية وكان له الفضل بتأسيس صحافة المعتقلات، فعمل على إنشاء صحيفة في كل معتقل، ومجلة موحدة للحركة الأسيرة.

كرّس عمر القاسم اهتمامه لتحويل السجون إلى أكاديميات وطنية، فأدار حلقات نقاش حول وشرح الأدبيات الفكرية والفلسفية

مسيرة عمر القاسم داخل السجون تشهد له بالكثير من المحطات الكفاحية والمواقف الصلبة، عندما نفذت مجموعة تابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عملية في مستوطنة "معالوت" في أيار/ مايو 1974، حين احتجزت المجموعة عدد من الطلبة العسكريين داخل المستوطنة وطالبت بإطلاق سراح 27 معتقل فلسطيني من سجون الاحتلال مقابل الإفراج عنهم، استدعت إدارة السجن عمر، وقاموا بعصب عينيه ووضعوه على متن طائرة مروحية رفقة رفيق دربه في السجون الشهيد أنيس دولة، واتجهوا بهم إلى معالوت، ثم وضعوه على متن مجنزرة، وطلبوا منه دعوة الفدائيين لتسليم أنفسهم فرفض عمر القيام بهذه المهمة وعندما أصروا عليه مستخدمين شتى الضغوط، أمسك الميكرفون وقال بأعلى صوته: "أيها الرفاق نفذوا أوامر قيادتكم بحذافيرها ولا تستجيبوا لمطالب الأعداء"، فخطف جنود الاحتلال الميكرفون منه وانهالوا عليه بالضرب داخل المجنزرة، ثم أعادوه إلى زنزانة انفرادية، عقابًا له على ما قام به.

اقرأ/ي أيضًا: محجوب عمر.. حكاية فلسطينية

خلق هذا الموقف حقدًا تجاه عمر من قبل الإسرائيليين فرفضوا إدراج اسمه في كل عمليات تبادل الأسرى التي حدثت فيما بعد، لكن صلابة عمر النفسية وإيمانه بعدالة قضيته كانت الوسيلة الوحيدة لمواجهة الرد الانتقامي القاسي الذي عمد إليه الاحتلال، في محاولة لضرب معنوياته وتحطيمه نفسيًا عن طريق ايهامه بأن لا قيمة له في عين تنظيمه، فبعد عملية التبادل التي وقعت بين الجبهة الشعبية القيادة العامة والاحتلال عام 1985 خرج معظم رفاقه في الأسر وتم استثناء اسمه من قائمة المفرج عنهم، لكن عمر جسّد موقفًا وحدويًا يعبر عن الأبعاد الإنسانية العميقة في شخصيته، وذلك حين تحدث في ندوة تضم كل الذين سيفرج عنهم حيث قال "إنه إنجاز وطني كبير، ونحن نعيش الآن عرسًا وطنيًا، وعلينا أن نعمل على إنجاحه، ونحن الذين سنبقى، لا نحزن حتى لا يفقد الرفاق والأخوة فرحة خروجهم. علينا أن نفرح معهم"، وبعد ذلك اقترح برنامجًا بهذه المناسبة وشارك فيه بفعالية.

وبعد خروج المعتقلين واستقرارهم كتب لأحد رفاقه: "سعادتي بتحرركم طغت على حياتي وأسبح في بحر من النشوة، إن هذا ليس كلامًا مبالغًا فيه، فليس من الممكن لإنسان مثلي أن يجد طعم الحياة إلا أن هذا الشعور العميق من السعادة الذي يسيطر على نفسي نتيجة لتحرر هذا العدد الكبير من الأحباء".

رأى الاحتلال أن تأثير عمر القاسم تجاوز حدود المعتقل، وبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 1987 حاول الاحتلال الدفع بخطوات للتهدئة في محاولة لاحتواء زخم الانتفاضة المتصاعد وفي أثناء مقابلة اسحق نافون، الرئيس الإسرائيلي السابق مع عمر داخل السجن، طلب منه عدم القيام بأي نشاط سياسي، مقابل الإفراج عنه والسماح له بالإقامة في القدس، وجاء رد عمر حازمًا: "أمضيت عشرين عامًا في الاعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وأن لا يبقى كابوس الاحتلال على صدر الشعب. سأبقى أناضل وسوف يأتي اليوم الذي أتحرر فيه".

كان عمر قائدًا وقدوة متفقًا عليه، وكان مرجعًا وعلى درجة عالية من الوعي وقوة الإقناع، ومن المحطات الهامة في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة أنه قاد عشية انعقاد الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، النقاش السياسي في كافة السجون والمعتقلات من أجل صياغة المهام الراهنة للحركة الوطنية الأسيرة. النقاشات التي وحدت الأسرى على برنامج سياسي موحد، مطالبًا الدورة 19 بإعلان قيام دولة فلسطين.

عانى عمر القاسم خلال مسيرة حياته خلف القضبان على مدار 21 عامًا من العديد من الأمراض بسبب التعذيب والتنكيل، ما تحول إلى مرضٍ عضال في ظل سياسة الإهمال الطبي المتعمد من قبل إدارة مصلحة السجون، ومن الضرب بعرض الحائط لكافة المناشدات الصادرة عن الهيئات والمؤسسات الإنسانية والدولية الداعية لإطلاق سراحه، إذ أبقته يكابد أوجاع المرض في مستشفى السجن.

عانى عمر القاسم خلف القضبان على مدار 21 عامًا من الأمراض بسبب التعذيب الذي تحول إلى مرضٍ عضال في ظل سياسة الإهمال الطبي المتعمد

في تاريخ 4 حزيران 1989، أعلن عن استشهاد عمر القاسم جراء تفاقم مضاعفات المرض بعد أن أمضى واحدًا وعشرين عامًا في سجون الاحتلال، وهي أطول فترة يمضيها معتقل فلسطيني في تلك السجون ذلك الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: زكي هللو.. رجل الظل

دفن الشهيد عمر القاسم في مقبرة الأسباط في مدينة القدس، وشارك في تشييع جثمانه الآلاف من الجماهير والقيادات السياسية والوطنية، كما أقيمت للشهيد مسيرات وجنازات رمزية، ومظاهرات عمت كافة أرجاء الأرضي المحتلة.

لم يعش عمر عمرًا طويلًا، لكنه سطر عبر سيرته الخالدة كرمز لشجاعة الفلسطيني وصموده، والتي ستبقى فخرًا لكل أحرار العالم، وستظل مرجعًا للحركة الأسيرة الفلسطينية والعربية والأممية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 

عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي

سهيلة أندراوس.. رابعة الأربعة