بشائر هذا اليوم من نوادر التاريخ والحياة. إنها بشائر الحرية والخروج إلى النهار من كهف الاستبداد. لكنه يوم لم يحدث مجانًا، بل كانت له أثمان باهظة: دماء وفقدان وغربة وخراب.
أُعلن عن سقوط الأسد في ساحة الأمويين في دمشق، حيث كان أول صوت يخرج فيها هو صوت عبد الباسط الساروت، الرمز الثوري السوري الأكبر، الذي خرج من مُسجّل سيارة نزلت منها مجموعة من الفتيات ليُعلنَّ بين الفوضى والصراخ وتوافد الناس إلى الساحة عبورَ البلاد بين زمنين، زمن الأسد والاستبداد وزمن الحرية والأمل.
كل ما فعله الطاغية والمشرفون على آلة قمعه هو ألا يحدث هذا اليوم، ومن منطق الأمور وطبيعتها أن هذا اليوم حدث، وحدث بشكل سلمي إلى حد كبير، وكانت أبرز ملامحه إلى جانب تحرير المدن والأحياء هو تحرير السجون، وعلى رأسها سجن صيدنايا العسكري، أحد أقذر سجون التاريخ البشري.
وبينما خرج السجناء من وراء أبواب الحديد غير مصدقين، توافد مثلهم الناس أفواجًا إلى ساحة الأمويين كاسرين السجن الأكبر والأعتى، حيث امتزجت الهتافات بالدموع، وعاش الناس اللحظة التي تخيل الثائرون جميعًا حدوثها وطال انتظارها بسبب الخذلان والتلاعب بمصير الثورة من مختلف الأطراف.
استعاد السوريون اليوم ما كان دائمًا ملكًا لهم: صوتهم وكرامتهم ومستقبلهم. هذا هو بداية قصة جديدة لسوريا، قصة لا تُكتب بالاضطهاد، بل بالصمود والأمل
في الساحة، ارتفعت الأيدي ولوّحت بالأعلام الخضراء، وشكل الناس الذين لا يعرفون بعضهم بعضًا جسدًا حيًّا هو الجسد الذي جمعته الحرية.
وربما نخطئ لو بقينا نربط هذا اليوم بسقوط الطاغية وهروبه فقط، لأنه يوم انتصار الإرادة التي لم تلنْ والأمل الذي ظلّ حيًّا. ولأنه اليوم الذي استعاد فيه السوريون كرامتهم بعد قهر طويل.
يقف وراء هذا المشهد التاريخي ملايين السوريين الذين قدموا تضحيات لا تُحصى، من شهداء قضوا من أجل الكرامة، إلى مناضلين حملوا الثورة على أكتافهم، وأسرٍ تحملت سنوات من اللجوء والتشريد، إلى الباقين في بيوتهم ممن تحملوا شظف العيش وجنون القمع.
لحظة دخول الكاميرات إلى قصور الأسد كانت بمثابة نافذة على الفجوة العميقة بين حياة الطاغية وحياة شعبه. الكاميرات كشفت عن رفاهية فاحشة تخفي وراء جدران القصور الذهبية حياة مليئة بالبذخ والترف، مقابل معاناة شعبٍ يعاني من الجوع والفقر والقهر.
وبمقدار الفرحة مع صور المعتقلين وهم يغادرون سجون الأسد كانت هناك صور صادمة تأتي من القصور الفارهة التي اقتحمتها كاميرات المواطنين، وراحت تكشف كيف أنها تجاور شعبًا عانى من الجوع والبرد، وأكملت هذه الصور الشكل الذي كانت حياة آل الأسد تمثّل فيه انعكاسًا لجشع السلطة والهيمنة، ونهب الموارد والاستغلال.
يكشف كل ما جرى في الأيام الماضية، وفي يوم السقوط الكبير، أن الأنظمة الدكتاتورية تلعب اللعبة نفسها دومًا، فلا شيء للشعب بل للأسرة الحاكمة. وحتى حتى وعود النظام القديمة في الوحدة والحرية والاشتراكية - شعارات حزب البعث الجوفاء، ووعود نظام الأسد الصغير في حماية الأقليات وتحديث سوريا.. وغيرها لم تكن سوى أدوات للسيطرة.
استعاد السوريون اليوم ما كان دائمًا ملكًا لهم: صوتهم وكرامتهم ومستقبلهم. هذا هو بداية قصة جديدة لسوريا، قصة لا تُكتب بالاضطهاد، بل بالصمود والأمل.