يُمنّي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزرائه الجديد فرانسوا بايرو نفسيْهما بعدم الإطاحة بالحكومة الجديدة برلمانيًا، عبر حجب الثقة عنها كما حدث مع سلفتها حكومة بارنييه، التي لم تُعمّر سوى شهرين. ويُراهن ماكرون وبايرو على التنوع في الحكومة حيث ضمّت أسماء يسارية مع أخرى يمينية ومحافظة وسطية، لكنها في المقابل خلت من أي مشاركة من طرف الائتلاف اليساري الذي تصدّر نتائج الانتخابات التشريعية (الاشتراكيين والخضر والشيوعيين واليسار الراديكالي ممثلا في حزب فرنسا الأبية بزعامة ميلانشون). كما تعرضت لنقدٍ شديد من طرف اليمين الفرنسي المتطرف.
وبناءً على ذلك يرى متابعون أنّ ماكرون لم يفعل شيئًا سوى ترحيل الأزمة لفترة قادمة، في ظلّ مواجهة الطبقة السياسية لاستحقاق إقرار ميزانية جديدة للعام 2025، يريدها ماكرون وفريقه الحكومي تقشّفيةً تسمح لفرنسا بتجاوز أزمتها المالية وتقليص العجز، في حين ترفض معارضته مساعي التقشف التي تعتبرها غير مبررة.
وجوه منفّرة في حكومة بايرو:
يرأس فرانسوا بايرو حزب الحركة الديمقراطية المعروفة اختصارًا بـ"موديم" ويعدّ حليفًا لحزب النهضة الذي يقوده ماكرون، والذي كلف بايرو منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري بتشكيل حكومة على رأس أجندتها تمرير ميزانية العام 2025، وقام بايرو في سبيل تشكيل حكومته بمشاورات مع مختلف الطيف الفرنسي، بما في ذلك اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان رئيسة كتلة حزب التجمع الوطني، وعلى الرغم من عدم انضمام اليمين المتطرف للحكومة، فإنّ بعض المصادر لا تستبعد حصوله على تنازلات من بايرو، خاصةً أنه حصل في السابق على تنازلات أيضا من حكومة بارنييه بشأن الميزانية، لكنه انقضّ مع ذلك على تلك الحكومة، وعليه ليس مستبعدًا أن يكرر ذات السيناريو مع حكومة بايرو، خاصة أن زعيمة اليمين المتطرف لا تكف عن المطالبة بالذهاب لانتخابات رئاسية مبكرة، في ظل التقدم الذي تحرزه أمام ماكرون في استطلاعات الرأي.
ما فعله ماكرون هو ترحيل للأزمة السياسية وليس حلّا جذريا لها
في المقابل لم تتضمن حكومة بايرون المكونة من 35 وزيرًا أي اسم ينتمي للتحالف اليساري الذي يشكل أغلبية في البرلمان بأكثر من 161 مقعدًا، بل إن ماكرون ورئيس وزرائه عمدا إلى تدوير مجموعة من الأسماء وتسمية شخصيات في الحكومة لا تحظى بقبول في الشارع الفرنسي، مثل إلزابيث بورن التي أغاظت الفرنسيين بتمريرها قانون إصلاح نظام التقاعد الذي رفع سنّ التقاعد إلى 64 عامًا، مستخدمة صلاحيات الحكومة، أي البند 49.3، لتمرير المشروع دون تصويت البرلمان، ويضاف لبورن التي تتولى منصب وزيرة التربية، مانويل فالس وزير الأراضي الفرنسية ما وراء البحار، والذي سبق وعين رئيسًا للحكومة لكنه يعدّ من أقل الأسماء شعبية حسب صحيفة لوموند.
وشهدت حكومة بايرو تدوير عدة أسماء في مناصبهم أو مناصب أخرى، من بينهم جيرالد درامان الذي أصبح وزيرًا للعدل، وسيباستيان لوكورنو الذي احتفظ بمنصبه وزيرًا للدفاع، كما احتفظ وزير الداخلية المحافظ، برونو روتايو المعروف بمعاداته للمهاجرين، بمنصبه، وكذلك احتفظت وزيرة الثقافة رشيدة داتي من حزب الجمهوريين اليميني بمنصبها.
وعهد بايرو بمهمة ملف الميزانية الذي يؤرق الفرنسيين إلى إريك لومبار، رئيس صندوق الأمانات والودائع، الذراع الاستثمارية للحكومة الفرنسية.
وترى صحيفة لوموند أنه في المحصلة يمكن القول إنّ حكومة فرانسوا بايرو "تعتمد إلى حد كبير على نفس القوى الوسطية والمحافظة التي دعمت سلفه، أما الأسماء اليسارية التي تضمّها، فمعظمها تموضع إلى جانب ماكرون وتياره الوسطي منذ وقت طويل". وهذا ما يفسر تعرضها لانتقادات حادة من قوى يسارية معارضة، حيث قال عنها زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور، إنها "ليست حكومة، إنها استفزاز. اليمين المتطرف في السلطة، تحت أعين اليمين المتطرف". كما لفتت رئيسة حزب الخضر مارين تونديلييه، إلى أنّ "أعضاء الحكومة الجديدة الذين لديهم خلفيات يسارية تاريخيًا، قد انفصلوا منذ فترة عن اليسار السياسي"، مضيفةً القول: "الوحيدون الذين لديهم أي كرامة هم أولئك الذين رفضوا المشاركة في هذه المهزلة".
ماكرون يضع رقبته تحت رحمة اليمين المتطرف:
أظهرت التشكيلة الوزارية التي يقودها بايرو مدى سعي ماكرون وتعويله على دعم اليمين المتطرف، لكن المعارضة تعتقد أن ماكرون تجاوز ذلك إلى وضع "رقبته تحت رحمة هذا التيار وزعيمته مارين لوبان"، وهذا إن عنى شيئًا فإنما يعني أنّ الأزمة السياسية لم تطو صفحاتُها بعد، فحتى لو افترضنا أنّ حكومة بايرو نجحت في تمرير ميزانية 2025، فإن فرنسا، والعبارة لصحيفة لوموند "قد لا تنجح في تجنب سيناريو انتخابات رئاسية مبكرة".
ومن بين المؤشرات على ذلك الانتقادات القادمة من اليمين واليمين المتطرف للحكومة الجديدة، حيث رفض اليميني كزافييه برتران، رئيس منطقة أو دي فرانس، المشاركة فيها قائلًا إنها "حكومة تتشكل بتواطؤ مع اليمين المتطرف، ولوبان، والتي ستكون لها اليد الطولى في ضمان بقاء هذه الحكومة". وكشف برتران أن ماكرون أخبره الإثنين الماضي أنه "سيتراجع عن وعده له بمنحه حقيبة العدل، بسبب معارضة حزب لوبان، إذ يعدّ برتران ولوبان خصمين شرسين".
أما زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان فكشفت في حوار مع صحيفة لوباريسيان عن أنها "تستعد لانتخابات رئاسية مبكرة على سبيل الاحتياط، نظرا لضعف ماكرون، وما تبقى له من أدوات مؤسسية قليلة"، لافتةً في الحوار إلى أن "شعبية الرئيس تضاءلت على الصعيدين المحلي والدولي، ولم يعد له أي نفوذ في الاتحاد الأوروبي".
ويواجه ماكرون صعوبات حقيقية في فترته الرئاسية الثانية، على رأسها عدم تمتعه بأغلبية في البرلمان تمكنه من تمرير سياساته، فضلًا عن ذلك يتعرض لضغط من اليسار الراديكالي واليمين المتطرف بإجراء انتخابات مبكرة يقرر فيها الفرنسيون من يحكمهم وتُخرج البلاد من عنق الزجاجة الذي حشرها فيه ماكرون، والذي جعل فرنسا تمرّ بأسوأ عام في عمر الجمهورية الخامسة وفقًا لصحيفة لوموند.
في المقابل يمنّي فرانسو بايرو، نفسه بعدم مواجهة مصير سلفه بارنييه، حيث أعرب في حوار مع قناة "بي أف أم تي في: عن ثقته في عدم سحب البرلمان الثقة منه، قائلًا "أنا واثق من أن الإجراءات التي أطرحها أمامكم مع فريق الحكومة سوف تضمن عدم الإطاحة بنا" في الجمعية العمومية الفرنسية (البرلمان).