26-مارس-2016

إرنست همنغواي في كوبا

لطالما استوقفني فيلم "البحر في الداخل The Sea Inside" الذي يحكي قصة الشاعر الإسباني والصياد رامون سامبيدرو الذي اختار أسهل طريقة للتخلص من الشلل الذي أصابه وهي الانتحار، ما استوقفني بشكل خاص هو لجوؤه إلى أن يعتبر الانتحار حقًا، وهذه الفكرة التي استرعت انتباه كثير من الكتّاب غيره.

الفكرة الشائعة عن الكتّاب هي سعيهم إلى شيء جديد ينّمي الأنا لديهم بغض النظر عن نشوء حالة مرضية

يعكس هذا الفلم واقعًا غريبًا وفكرة باتت مأخوذة عن الكتّاب والشعراء في سعيهم للغرابة في كل شيء، إلى خلق شيء جديد ينّمي الأنا لديهم بغض النظر عن نشوء حالة مرضية كما حدث مع رامون سامبيدرو. يلجؤون إلى تحفيز ذاتهم بأنفسهم وقد يحصل أن تموت أثناء ذلك، فهم كائنات في أغلب الأحيان تنحو إلى العتمة، التطرف في الأفكار، مرض العظمة في كثير من الأحيان التي تتقولب على نحو مغاير كما وصفها إميل سيوران: "كلما ازدادت لا مبالاتي بالبشر تضاعفت قدرتهم على التأثير بي، ومهما احتقرتهم فإني لا أستطيع الاقتراب منهم إلا متلعثمًا". 

اقرأ/ي أيضًا: محمود السيد.. سؤال الوجود الحضاريّ

هذا ما حدث لرامون سامبيدرو حقيقة، إذ صار في النهاية يخجل من مرضه وعدم قدرته على الحركة وحتى على الانتحار، فقد ظل يراقب النافذة ويتخيل أنه خارج منها ليكمل غرقه في البحر حتى الموت. هذا هو وأقول إنه الحافز الأقوى للجوئه إلى الخلاص؛ الشفقة من الأطراف الأخرى إذ تنتفي بذلك الالتفاتة المميزة من المجتمع الذي يعيشون به، مع أنهم أيضًا يدرسون وهم أحياءٌ موتَهم على أصول خاصة بل ويفكرون به كثيرًا في أول يقظتهم حتى في أقصى حدود فرحهم. "إن الانتحار هو الحل الوحيد الممكن" كما يقول كافكا.

هذا هو الأسلوب المغاير في العيش الذي يحتمي به الكتّاب إذ حين يتفرغون من العالم خارجهم ويجلسون في عزلتهم اللازمة يمتلئون به مجددًا، بل يُفرغون أنفسهم أيضًا وهم لا يدرون، وهذا ربما ما يجعلهم يختارون أيضًا نهاية غريبة لحياتهم بما فيها عقلهم وقلبهم اللذين يشغلانهم باستمرار. حتى في اختيار وضعية جلوسهم للكتابة أو ربما غير الجلوس كأن يستلقوا وأرجلهم على الحائط، أو ينامون على بطنهم، أو في حوض الاستحمام، أو ربما يجلسون في خزانة الثياب، وهذا كله ما لم يستطع رامون فعله فقد لجأ إلى الموسيقى فقط التي ظلت مستمرة وقلم أمسكه بفمه ليكتب ما في أعماقه، وقد انتهى الفلم بمقولته:

"إلى البحر إلى البحر
وفى انعدام وزن القاع
المكان الذى تتلاقى فيه الأحلام
أعمق وأعمق".

سيوران: لا ينتحر إلا المتفائلون. المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل

في الحقيقة هذه فكرة لجأت إليها أسماء كثيرة من الكتّاب وقد اختار كل منهم طريقته المناسبة؛ فقد قامت آن سكستون بتشغيل محرك السيارة وماتت باستنشاق أول أكسيد الكربون، وقامت فرجينيا وولف بملء معطفها بالحجارة وألقت بنفسها في نهر "أوز"، إرنست همنجواي فجّر رأسه مستعينًا ببندقية، سيلفيا بلاث وضعت رأسها بالفرن بعد أن كان مليئًا بالغاز وأغلقت كل المنافذ داخل المطبخ، يوكيو مشيميا انتحر بغرز سيف طويل في بطنه، شتيفان تسفايج ابتلع هو وزوجته في لحظة واحدة العشرات من الأقراص المنومة ولم ينس أن يعطي منها كلبه أيضًا، فلاديمير ماياكوفسكي أنهى حياته بإطلاق رصاصة على قلبه، لاو شه ألقى بنفسه في بحيرة تايبينغ، رينوسك أكوتاغوا انتحر بجرعة زائدة من الدواء، كارين بوي انتحرت بجرعة زائدة من المسكنات... ومن الأدباء العرب أذكر أيضًا خليل حاوي الذي فجّر رأسه برصاصة، تيسير السبول الذي انتحر بإطلاق النار على رأسه وهو ممدد على سريره. وغيرهم الكثير.

اقرأ/ي أيضًا: في الشعر كما في القهوة

لا ننكر أن أسباب انتحارهم كانت مختلفة فكل له حوافزه إلى المضي نحوه وهذا هو التطرف بحد ذاته، فكان الحل الأمثل برأيهم هو الخلاص، لكن إميل سيوران ناقض أن تكون فكرة الانتحار من دواعي أمراض نفسية قد تعرض إليها معظمهم، قال: "لا ينتحر إلا المتفائلون. المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لا يملكون مبررًا للحياة؟". ولكن ما يتفق أغلبهم عليه هو خوفهم من الموت. 

هي فكرة الموت التي لطالما أثقلت تفكيرهم وأخذت حيزًا كبيرًا من كتاباتهم، فكرة ظلت تخيفهم باستمرار وتلاحقهم أينما ذهبوا، أذكر ما قاله إرنستو ساباتو: "يعيش الإنسان اليوم في حالة توتر دائم، وهو يقف وجهًا لوجه أمام الدمار والموت والتعذيب والوحدة. إنه إنسان الحالات المتطرفة وقد بلغ، أو على وشك البلوغ، نهاية وجوده.". 

وقال عبد الرحمن منيف: "الحياة كلها صعوبات، والدليل على ذلك أن الطفل حين يخرج من الرحم يبدأ الحياة بالبكاء والصراخ، وتستمر الصعوبات يومًا بعد يوم، منذ لحظة الميلاد وحتى ساعة الموت، ولا يخفف منها إلّا النعمة، أما الموت فإنه يضع حدَّا للصعوبات كلها، والدليل أن الميّت يتوقف عن الألم، يتوقف عن الصراخ والاحتجاج، تاركًا هذه المهمة للذين حوله، للذين ما زالوا على قيد الحياة.."، وقال ليو تولستوي: "الموت...الموت ينتظرك كل لحظة". 

كلما تعاقبت الأزمان نجد أن قيمة الإنسان قد أصبحت أسخف

ربما كانت الأمراض النفسية أكثر ما يدعو لهذه الفكرة، ولكن هذه الأمراض بالتأكيد قد أتت من عوامل كثيرة فإلى الآن نجدهم يحملون كلماتهم ويطوّعونها بتلك الطاقة نفسها التي تجعلهم يذهبون إلى أهدافهم الأسمى وهي الوطن والحرية والانعتاق. تلك القوة التي يجدونها ويستمدونها من أيديهم التي تحمل أقلامهم الأقدرعلى مجابهة القضايا الكثيرة حولهم، في حين إذا أهدرت هذه الطاقة وأُوقفت أو توقفت فإنهم سيلجؤون حتمًا إلى اتجاه مغاير لتلك المواجهة وهي مواجهة النفس... بإنهائها.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر الميّت على فيسبوك

لكن تظل فكرة الانتحار مخيفة إذا كانت بسبب الآخر، فكرة مخيفة أن يحمّل هذا الآخر مسؤولية موته وهذا الذنب طوال حياته الباقية. وفي بعض الأحيان أفكر فيمن يذهبون للقتال وتفجير أنفسهم في الحروب، ربما ذهب بعضهم من أجل هذا الهدف، خاصة في بلادنا العربية إذا نظرنا من منظور تشاؤميّ نجد أنّ الأفراد لا يتركون شيئًا ثمينًا باقيًا وراءهم إذ صارت حياتهم عادية، وإذا نظرنا إلى مقولة إميل سيوران فبعد كل هذا الأمل ها هم يذهبون للانتهاء رغم مبادئهم الدينية والوطنية التي لا أشكك فيها أبدًا.

وإذا ما قارنّا بين الأزمنة المختلفة فنجد أن الأسباب في الماضي كانت أعمق أو ربما قيمة الإنسان كانت أهم بغض النظر عن الظروف ذاتها التي تتكرر من الفقر والمرض وغيرها، لكن كلما تعاقبت الأزمان نجد أن قيمة الإنسان قد أصبحت أسخف، ففي السابق وبعيدًا عن الحروب أو حتى خلالها كان الحبيب أو الزوج يرسل رسالة إلى حبيبته أو زوجته اعتادت على استقبالها كل شهر، رسالة ورقية تأخذ منه مجهودًا ووقتًا في كتابتها، وحين لا تصلها كانت تحزن ثم تجد له مبررات وأسبابًا، حيث كانت الأسباب محدودة ومحصورة، أما الآن في عصر التكنولوجيا ومع وجود تطبيقات كثيرة مثل الواتساب والفيسبوك ماسنجر، ومع ظهور كلمة (seen) التي تظهر بعد كل رسالة مقروءة، إذا لم يجب على رسائلها بعد وقت هي تحدده ربما ستتهمه بالخيانة، وإذا ما تكررت مثل هذه الخيانات فربما تكون مدعاة لبعضهن أو بعضهم ولا أشك في هذا أبدًا للانتحار... وبأقرب وسيلة متوفرة.

اقرأ/ي أيضًا:

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن

هل نقرأ التاريخ؟