07-نوفمبر-2022
لوحة فسيفساء إغريقية لأوديسيوس

لوحة فسيفساء إغريقية لمشهد من الأوديسة

لطالما كان الإنسان مسحورًا بنظام العالم وائتلافه وفق قوانين كلية لايحيد عنها، الأمر الذي دفعه لأن يتساءل إذا ما كان ثمة وجود عقلي كلي وراء هذا الكون الغني بموجوداته اللانهائية، وإذا ما كان العقل البشري ذاته ما هو إلا جزء من هذا العقل  الفعّال وشاهد على روعة اتساقه.

يمتلك الإنسان عقلًا، لذا نراه لا يكف عن توظيفه بما يشبع فضوله من تلمس الغايات والمقاصد التي تحكم الظواهر الكونية كما حياته اليومية ذاتها. ما العالم، وما الغاية من وجوده على هذا النحو الساحر، إن لم يكن في جوهره سوى مدخل لتحقيق حلم البشرية بالعدالة اللإلهية، حيث يكافئ الأخيار بالجنة، كرمز للسعادة الأبدية الخالصة، والأشرار بالجحيم، كرمز للشقاء الأبدي. وإذا كانت فكرة السعادة في التصورات الدينية مؤجلة إلى الما بعد، ما بعد الحياة الدنيوية الزائفة، فإنّ الفلسفة تضعها في القلب، في قلب السلوك البشري، كما في كنه هذه الحياة القصيرة الصاخبة المصحوبة بالشقاء والنقص والفناء.

على عكس تصوراتنا المسبقة عن الأدب في كونه فنًا ينتمي لعالم الخيال أو اللاواقع، فإننا نقبض عليه متلبسًا على نحو لا فكاك فيه بسؤال التصورات الفكرية الكبرى السابقة، وهاجسها بتحقيق السعادة

على عكس تصوراتنا المسبقة عن الأدب في كونه فنًا ينتمي لعالم الخيال أو اللاواقع، فإننا نقبض عليه متلبسًا على نحو لا فكاك فيه بسؤال التصورات الفكرية الكبرى السابقة، وهاجسها بتحقيق السعادة. وما مرد ذلك الاستنتاج سوى شعورنا الواعي بغاية الأدب ذاتها، التي تكمن في السعي لتحقيق المتعة أو السرور لصاحبها، أي السعادة، وقد تجلت على شكل رضا نفسي عميق خال من أي قلق أو انفعال عنيف.

كان لسؤال المتعة الذي يثيره الأدب في أنفسنا أن ينتظر طويلًا لوضعه على مشرحة النقد أو الفهم بالطريقة التي قدم لها أرسطو في كتاب "فن الشعر". ففي الشعر أو على نحو أدق في المسرحيات المكتوبة شعرًا، يتساءل أرسطو عن السبب الذي يجعل من مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس عملًا فنيًا ممتعًا، جالبًا للسرور والرضا على الرغم من الطابع المأساوي لأحداثها، قيام أدويب بقتل أبيه، ومن ثم الزواج من أمه، وفيما بعد المصير العنيف لكليهما؛ انتحار الأم وسمل عيني الابن.

من أجل عقل أو فهم هذا التناقض الظاهري، بين مأساوية الأحداث التي تعرض على الجمهور، وشعورهم الفائق بالمتعة الخالصة أو السرور، اتخذ أرسطو من علم النفس مدخلًا للإجابة على هذا السؤال. فذهب إلى أن معايشة المرء للمشاعر العنيفة بشقيها الخوف المستطير حد الجزع الذي يشل القدرة على التفكير، كما الحزن العميق الذي يُولّد الرغبة الدفينة بالانسحاب من الحياة. والمشاعر الناتجة عن تماهي المتفرج مع عواطف الشخصيات ومصائرهم سرعان ما ستنقلب إلى نقيضها، أي الفَرَج المولد للسرور، عبر عملية التفريج النفسي أو التطهر، بلغة أرسطو.

مقابل كل عملية تماهٍ تقوم بها ذات المتفرج، عبر إصرارها على توهم أن تلك التجربة النفسية المتخيلة للشخصيات على المسرح ما هي إلا تجربتها الخاصة، وقد وجدت نفسها متورطة في وضعية من يواجه مأزقًا حقيقياً، يشبه إلى حد كبير مأزق أدويب وهو يواجه أبيه بالسيف ليرديه قتيلًا، ومن ثم مأزقه وهو يخوض في لحم أمه دون نية مسبقة منه لفعل ذلك. تعاود النفس المتوهمة الرجوع إلى رشدها، مقيمة الحد الفاصل بين واقع الحياة اليومي الذي قد تجري فيه وقائع القتل العنيف، وواقع التخيل المسرحي، الذي ينتمي في طبيعته إلى عالم الفرد الذهني حيث الأحداث مجرد أفكار ومشاعر متخيلة وحسب، الأمر الذي يولد في أعماقها السرور، وقد أدركت لتو نجاتها من الشرك الذي دفعت إليها لحظة تماهيها مع مآزق الآخرين وتجاربهم المرعبة.

إذا كان الأدب في جزء منه، المأساوي تحديدًا، يسعى لتحريرنا أو تخليصنا من مشاعر الإثم عبر تقنية التفريج النفسي الموصلة للسرور، فإن سؤال الأدب يتعدى شعور السرور، إلى سؤال الوجود ذاته؛ من نحن؟ وما معنى أو قيمة أو هدف الحياة التي نحيا في جوانبها؟ في سؤال الهوية الكبير المتمثل بنحن الكبيرة، ينحاز الأدب إلى تصور ذهني مرده بأن الإنسان مجرد كائن ضعيف، أو بلغة باسكال الفلسفية "مجرد قصبة ضعيفة"، ولكنها في الوقت نفسه قصبة مفكرة من طراز رفيع. الأمر الذي يجعل من مسألة وجوده أو استمراره في الحياة متوقف على قدرته في النجاة من عملية الصراع الدامي، الذي تحيط به من كل جانب سواء جاءت من جهة الطبيعة التي لا ترحم، أو من جهة الإخوة الأعداء، الآخرين بكل تنويعاتهم، أو حتى من جهة الذات نفسها الحائرة بين الإنصات لصوتين؛ صوت غرائزها أو حاجاتها، وصوت أناها المجتمعية المتمثلة بالضمير.

يعكس الأدب في جوهره الحياة، أفعال البشر العاديين وهم في حالة صراع ضارية أو مقننة على موارد الوجود المحدودة، بما يؤدي لانفتاحه على كامل الوجود البشري. فالصراع في مسرحية "أدويب ملكًا" متعدد الطبقات، فتارة نراه متجسدًا على نحو صراع نفسي بين أوديب وذاته، بعد أن عرف أنه الشخص الذي قتل أباه وتزوج أمه دون رغبة أو قصد منه، وتارة نراه في صراع الإنسان مع الآلهة أو القدر، الذي لن يستطيع الفكاك منه مهما حاول، كما في حالة هروب أدويب من قصر والديه غير الحقيقيين، كي لا يتورط في جريمتي القتل والسفاح.

يعكس الأدب في جوهره الحياة، أفعال البشر العاديين وهم في حالة صراع ضارية أو مقننة على موارد الوجود المحدودة، بما يؤدي لانفتاحه على كامل الوجود البشري

ومن ثم في مستوى وجودي آخر منه هو صراع تافه بين شخصين، أوديب وأبيه الحقيقي على حق أسبقية كل منهما في عبور مفترق الطريق، وهو في الجوهر صراع بشري ينهض على مستوى الغرائز أو الغرور عند كليهما، ما دام كل منها يصر على التصرف في الحياة كملك، له مطلق الصلاحية في فرض شروطه على الآخرين بالقوة والعسف. وأخيرًا صراع على مستوى الثمن الواجب دفعه للحصول على المعرفة، معرفة كم الشر الذي اقترفته يد كل منهما، أوديب وأمه جوكستا، بحق أعراف المجتمع ومحرماته كما بحق نفسيهما. ومن ثم الإقرار بالضريبة الواجب دفعها للتكفير عن شعورهما العميق بالذنب، على الرغم من طابعه غير المفهوم وغير المبرر منطقيًا، ما دام حدوثه، أي الذنب، قد تمّ خارج إرادتهما الفعلية، اللهم سوى إجبارهما للخضوع للتصورات الدينية المسبقة المتعلقة بعقيدة "الذنب بلا ذنب"، التي تجعل كل إنسان أو فرد مذنبًا لكونه، مزيجًا فريدًا من الصلصال الأرضي ودم إبليس المتمرد على الفعل الإلهي.

تبدو مقاصد الأدب جلية لمن يصغي إلى مقاصدها الخفية، فلسان حالها يقول إنها مع الإنسان، مع كفاحه الضاري ضد شظف العيش، كأن "العيش عمل شاق"، صراع ضار لا يكل ولا يمل ضد المآزق والصعاب، حتى اللحظة التي يتم فيها تحقيق الإنجاز المظفر أو البطولي الذي يأبى أن يربط نفسه إلا بالفذ والخارق والمستحق. لذا لا عجب أن نطلق على الشخصيات المتخيلة الفذة في الملاحم؛ أخيل في الألياذة، وعولييس في الأوديسة، صفة البطولة ونسحب ذلك إلى ما دونها من شخصيات أقل ملحمية أو فروسية كالفلاحين أو الموظفين، أو حتى الناس العاديين ومن هم في منزلتهم، ما دمنا لا نتوخى في نسبتهم إلى البطولة سوى الإشادة بالمعنى العميق، الذي صنعوه لأنفسهم وهم يتلمسون الخروج من المآزق التي اضطروا لمواجهتها والتغلب عليها.

إذا كان الأدب يحتفل بالشخصيات المظفّرة على النحو الذي نراه في الأفلام الحربية أو المسلسلات الرومانسية، كما في أعمال المحققين البارعين من أمثال شارلك هولمز والمحقق كونان، فما باله يحفل بالشخصيات التراجيدية أو المأساوية على غرار أوديب أو فاوست، أو إيما بوفاري؟ أيعقل أن بطولة أوديب قد كمنت في طبيعة صراعه غير المتكافئة مع القدر، وآلهته تحديدًا، وهو صراع خاسر مسبقًا، الأمر الذي يحوّل البطولة البشرية من مستوى الصراع مع الآلهة إلى مستوى الصراع مع النفس، أي نوعية الثمن أو القربان الذي يتوجب على أدويب دفعه مع شعوره العميق بأنه غير مذنب؟ في حين أن بطولة الدكتور فاوست كمنت في التضحية بنفسه، عبر قبول بيع روحه للشيطان، من أجل مهمة نبيلة تتمثل بأن إغراء المعرفة يفوق أي إغراء آخر، وأن هذا في حد ذاته موقفًا بطوليًا لا يدانيه موقف. إذا كان قد قُدّر لأدويب أن يهزم على يد القدر، فإنه في حالة فاوست قد هزم على يد رغبته الآثمة بالمعرفة، لنتفاجأ بأن هزيمة إيما بطلة رواية "مدام بوفاري" قد تمت على يد أحلامها المبالغ فيها بالحب والحياة والعيش وفق منطق القلب والرغبة، في مجتمع لا يبالي بمثل هذه العواطف الإنسانية النبيلة.

يبدو الأدب للوهلة الأولى خطابًا لغويًا لاهيًا، لا همّ له سوى أن يسلينا ويمتعنا، إلا أن سر متعه لا تتوافق بالضرورة مع المسار الذي حدده له أرسطو في "فن الشعر"، بقدر ما تتجاوزه إلى طبيعته الفنية القائمة على فكرة الخيال ذاته. ذلك النشاط المبدع الذي يقدم لنا فرصة عظيمة لانتهاك الزمن اليومي، المؤلف من عدد لامتناهي من الأنّات، ومن الأفعال الروتينية البليدة المؤسسة على الظفر بحاجات البيولوجيا والأمن، إلى نوع من الزمن المفارق الذي يقطع مع اليومي على النحو الذي نراه متجسدًا في زمن الطقوس الدنيوية والسحرية، كما في زمن تحرير الجسد من عاداته اليومية كمولد للطاقة الحيوية، إلى مولد للجمال الخالي من أي غرض، كما في حالتي الرقص والغناء، وحتى إن شئتم في تلك اللحظات المتأتية من تناول المشروبات الروحية.

مع ذلك، فإن ميلنا المتأصل للتأويل، تأويل النصوص بقصد توليد المعنى، لا يكف عن تحفيزنا لربط كل ما هو متخيل وعجائبي بكل ما هو واقعي وحسي متدرن، أو ما يمت له بصلة، ذلك أن الخيال في وعينا على الرغم من فعاليته السحرية لا يكف عن كونه وسيلة لفهم الذات والتأمل فيها. فالأبطال الكوميديون وفق منطقنا التأويلي ما هم سوى الفكهين الطيبين الذين آلوا على أنفسهم النهوض بمهمة فضح خواء العالم، الذي نحيا فيه وإظهار احتجاجنا العميق على بلادته وبلادة من يسيطر عليه ويدبر أموره. أما الملحميون، الفرسان أصحاب الإنجاز البطولي الرفيع، فما هم سوى صورة مصغرة عن أنفسنا التي تتوق للتغلب على كل مآزقنا الوجودية، على نحو فذ يجلعنا مستحقين لكل لحظة صراع نعيشها في هذه الدنيا الفانية، كل ذلك دون أن ننسى تعاطفنا العميق مع الأبطال المأساويين، وكيف ذلك وصدى آلامهم في صدورنا بمثابة عزاء جليل لهزائمنا الرهيبة في عالم قاس، لا يكف عن سحق تطلعاتنا للعيش بجدارة وكرامة وحرية وبطولة منقطعة النظير.