28-يوليو-2016

سجناء أفارقة لدى جنود بريطانيا

استكمالًا للمقالين السابقين حول الأدب الأفريقي، يتحدث هذا المقال عن عنصر مهم من عناصر الأدب والثقافة الأفريقية، والأدب والثقافة الإنسانية عمومًا، وهو عنصر اللغة. وقد شكلت اللغة إحدى المسائل المثيرة للجدل في أوساط النقاد والأدباء الأفارقة. ففي خضم أزمة البحث عن الهوية الثقافية الأفريقية، برز خلاف حاد حول موقع اللغة الإنجليزية، واللغات الأوروبية التي جاء بها الاستعمار بشكل عام، من الأدب الأفريقي. وانقسم أطراف الخلاف إلى قسمين: قسم يرى أن اللغة الإنجليزية فرضت فرضًا على اللسان الأفريقي، وأنه من مصلحة الكاتب الأفريقي الاستفادة منها لإيصال أدبه إلى العالم بسهولة. أما القسم الآخر، منطلقًا من سردية قومية معادية للاستعمار وكل ما نجم عنه من مظاهر، فيرى أن الإنجليزية هي لغة المستعمر، وأنها لا يمكن أن تكون لغة أفريقية بحال من الأحوال، وأن التحرر الحقيقي لا يمكن أن يتم بدون إعادة إحياء اللغات الأفريقية الأصيلة والاعتزاز بها. وفيما يلي تفصيل لحجج كلا الفريقين.

في خضم أزمة البحث عن الهوية الثقافية الأفريقية، برز خلاف حاد حول موقع اللغة الإنجليزية من الأدب الأفريقي

الإنجليزية.. لغة الأمر الواقع

من أبرز أصحاب هذا الرأي كتاب وأدباء مثل تشينوا أتشيبي وووليه سوينكا، فضلًا عن شريحة واسعة من الأدباء الشباب عمومًا مثل تشيماماندا نغوزي أديتشي وغيرهم. ويرى أصحاب هذا الرأي أن اللغة الإنجليزية باتت بفعل الاستعمار أمرًا واقعًا مفروضًا على لسان شريحة كبيرة من شعوب القارة السمراء لا يمكن تفاديه أو إنكاره. وعليه فإنه يقع على عاتق الكاتب الأفريقي استغلال اللغة الإنجليزية لإيصال صوته إلى شعبه وإلى العالم مستفيدًا من حقيقة أنها لغة عالمية ذات انتشار واسع في العالم كله.

ومن العوامل التي تدعم موقف أصحاب هذا الاتجاه أن اللغات الأفريقية كثيرة جدًا، وهي تختلف عن بعضها بشكل كبير. وبالتالي فإنه يصعب على الكاتب إيصال أعماله إلى كل تلك الشعوب باختلاف وتنوع لغاتها. فعلى سبيل المثال، في مقال له بعنوان "الكاتب الأفريقي واللغة الإنجليزية"، يعلق تشينوا أتشيبي على هذه النقطة بقوله إنه ثمة العديد من اللغات التي يرغب في تعلّمها إن أمكن ذلك. ويتساءل: "من أين أجد الوقت لأتعلم اللغات النيجيرية كلها فضلًا عن أن أنتج أعمالًا أدبية بكلّ منها؟ للأسف هذا غير ممكن. سيتعين على هذه اللغات أن تعمل كروافد فرعية تغذّي اللغة المركزية الأكثر تداولًا في البلاد. واليوم سواء كان هذا سيئًا أم جيّدًا، هذه اللغة هي الإنجليزية. ربما يتغيّر هذا الواقع في المستقبل، إلا أنني أشك في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: هوية أفريقيا.. من المسرح المفتوح إلى وهم الاستقلال

إذن، فأتشيبي يقبل هذا الأمر الواقع ويستسلم له. بل إنه يرى أنه يشكل فرصة لتوظيف سلاح الاستعمار ضد الاستعمار نفسه! وبالتالي فإن أتشيبي ينادي إلى فكرة امتلاك لغة المستعمِر وجعلها تنطق بلسان الشعوب التي استعمرها، وتعكس ثقافتهم وهويتهم التي دأب طويلًا على طمسها بشتى الوسائل. وهي وجهة نظر مفهومة إذا ما نظرنا إلى مدى صعوبة تواصل اللغات الكثيرة فيما بينها. هذا بالإضافة إلى أن كثيرًا من اللغات الأفريقية لا تمتلك نظم كتابة وتدوين واضحة ومتفق عليها من الجميع. إذ إنه من المعروف أن كثيرًا من شعوب القارة السمراء اعتادت من قديم الأزل على فكرة النطق والمشافهة فقط بدون استخدام الورقة والقلم مطلقًا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك هي لغة قبائل الإيبو Igbo، وهي لغة أتشيبي الأم. وبالتالي فإن اللغة الإنجليزية تأتي هنا لتختصر كلّ هذا العناء وتطرح نفسها كلغة تواصل متاحة وفي متناول الجميع باختلاف أطيافهم.

كثير من شعوب القارة السمراء اعتادت على فكرة النطق والمشافهة فقط بدون استخدام الورقة والقلم مطلقًا

جدير بالذكر أن أتشيبي ذكر في نفس المقال المشار إليه آنفًا أنه ليس مهتمًّا بوصول أعماله إلى غير القارئ الأفريقي، إذ إنه يقول بما معناه أنه يكفيه فقط أن يتمكن من توعية عقل الإنسان الأفريقي بعراقة وغزارة ثقافته وهويته الأم. تلك الهوية التي واجهت حملة عنيفة من قبل الاستعمار لطمسها ودفنها إلى الأبد.

الإنجليزية ليست لغة أفريقية!
 
على الجانب الآخر من النقاش هناك رأي معاكس تمامًا يعد الكاتب والمفكر الكيني نغوغي وا ثيونغو أبرز المنادين به. إذ إنه يعتقد بأن التحرر والانعتاق الثقافي الحقيقي من الاستعمار لا يتحقق إلا بإعادة إحياء اللغة الأفريقية وتغذيتها وتطويرها من خلال الأدب والفن والثقافة. ففي مقابلة له في عام 2013 على قناة البي بي سي بعنوان "الإنجليزية ليست لغة أفريقية"، يوضح وا ثيونغو وجهة نظره بقوله "هل يمكن أن نتخيّل رواية منسوبة للأدب الإنجليزي ولكنها مكتوبة بالصينية مثلًا؟". كما يذكر وا ثيونغو مفارقة عجيبة في أن عددًا من المسابقات الأدبية في أفريقيا تشترط لزامًا أن تكون الأعمال الأدبية المشاركة مكتوبة بالإنجليزية فقط حتى يتم قبولها في المسابقة! وهذا الأمر لا يكاد يحصل في أي مكان آخر في العالم بطبيعة الحال. 

بل إن واثيونغو لا يكتفي في دفاعه عن أهمية اللغة الأم بهذا القدر، ففي مواضع عدة من مؤلفاته يتحدث وا ثيونغو بإسهاب عن تفاصيل الصراع الثقافي والتربوي فيما يتعلق بفرض المستعمر لغته الأوروبية على الإنسان الأفريقي. فعلى سبيل المثال، في ورقة له بعنوان "لغة الأدب الأفريقي" يذكر أنه كانت المدارس تقع تحت إشراف إداريين أوروبيين بطبيعة الحال، وكانت هناك قوانين صارمة للغاية لمنع التلاميذ منعًا باتًا من التحدث بلغاتهم الأم. ومن ذلك أنه كان كل من يضبط متلبسًا وهو ينطق بلغته الأم فإنه يُجبر بقية اليوم على ارتداء قلادة مكتوب فيها "أنا غبي!" أو "أنا حمار!". بل إن إدارة المدرسة كانت حريصة على خلق روح من الرقابة بين التلاميذ أنفسهم لتزرع في نفوسهم حس النفور من لغتهم وهويتهم!

وفي ذات المقال المذكور أعلاه، يرد وا ثيونغو على منطق أتشيبي فيتساءل (مترجم بتصرّف): كيف أصبحنا، نحن الكتاب الأفارقة، ضعيفين للغاية تجاه لغاتنا الأصيلة، وفي منتهى العنف في مواقفنا دفاعا عن لغات الغير، وخصوصًا لغات مستعمرينا؟ [...] إن اللغة في رأيي كانت أهم أداة فرض المستعمر قوته من خلالها على أرواحنا وأبقاها أسيرة في براثنه.

إذَن، فإن اللغة عند وا ثيونغو هي سلاح خطير للغاية بيد المستعمر في السيطرة على أبناء مستعمراته من الداخل. فهي تسهل عليه ابتلاعهم داخل منظومته الفكرية والأيديولوجية والاجتماعية على حساب هويتهم الأصلية. وهي في ذات الوقت السلاح الأهم في يد الشعوب المستعمَرة لتحقيق كيانهم الحر المستقل.

وا ثيونغو: اللغة أهم أداة فرض المستعمر قوته من خلالها على أرواحنا وأبقاها أسيرة في براثنه

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن أفريقيا

أهمية الترجمة

أما فيما يتعلق بمسألة تعدد الألسن واللغات وصعوبة التواصل الثقافي فيما بينها، يطرح وا ثيونغو الترجمة كحل ناجع لها. وأما ما يراه أتشيبي من صعوبة تعلم كل هذه اللغات، فليس هذا صحيحًا بالضرورة. إذ إنه هناك العديد من الأعمال الأدبية التي بلغت من الشهرة والحفاوة حول العالم أضعاف ما بلغته في بلدانها الأم، وكان للترجمة الفضل الأعظم في تحقيقها! وهل كان يتصوّر كتاب مثل شيكسبير أو هيوغو أو دستويفسكي أن أعمالهم ستحصد جماهير غفيرة من القراء والنقاد والمحبين في أرجاء الكوكب كله؟ ناهيك عن أن الغالبية العظمى من هذه الجماهير إنما تقرأ نسخًا مترجمة عن أعمال هؤلاء الأدباء ولا تعرف شيئًا عن اللغات الأصلية لهذه الأعمال؟ ربما كان ذلك في حسبان هؤلاء الكتاب الكبار، وربما لا! ولكن أيًّا يكن، فليست هذه هي الإشكالية هنا، إذ إنه في الغالب الأعم لا يملك الكاتب خيارًا حول من يمكنه الوصول إلى أعماله وقراءتها ومن لا يمكنه ذلك. إذ إنه بمجرد خروج النص إلى الهواء الطلق، إن صح التعبير، فإنه يكون قد أفلت من قبضة مؤلفه وامتلك كينونته الخاصة المستقلة. ثم ما يلبث يغيب الكاتب في شخصه ويرحل عن هذا العالم تاركًا أعماله وأفكاره وراءه تجوب العالم بأسره بفعل تيارات التبادل الثقافي والمعرفي بين الشعوب. وهذا يحدث دائمًا سواء كان المؤلف قد خطط له مسبقًا أم لا. وهذه هي الفكرة التي تحدث عنها الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي رولاند بارت وأطلق عليها اسم "موت المؤلف la mort de l'auteur".

هو مشروع ثقافي ثوري إذن!

أقل ما يوصف به مشروع وا ثيونغو الثقافي هو أنه مشروع ثوريّ بامتياز

أقل ما يوصف به مشروع وا ثيونغو الثقافي في ضوء ما ذكر آنفًا هو أنه مشروع ثوريّ بامتياز. فهو لا يقف عند فكرة تعبير الإنسان الأفريقي عن نفسه وحسب، بل إنه يتعدى ذلك إلى المناداة بحملة تعود بالإنسان الأفريقي إلى جذور هويته الثقافية والاجتماعية واكتشافها من جديد ليمتلك صوته الأصيل المستقل بين شعوب وأعراق العالم. ويعتبر وا ثيونغو اللغة عنصرًا جوهريًا لا يمكن الاستغناء عنه. وكتحقيق لذلك، فقد بدأ وا ثيونغو بنفسه عندما قرر عام 1967 تخليه عن اسمه الإنجليزي "جيمس نغوغي"، وتخليه أيضًا عن الديانة المسيحية وتبنيه الاسم الأفريقي "نغوغي وا ثيونغو" كاسم يعبر عن اعتناقه هويته الأفريقية الأصيلة.

وكانت رواية "حبة قمح" (1967) آخر أعماله الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية، حيث إنه اتخذ لغته الأم، الكيكويو، لغة الكتابة الرئيسية والوحيدة لسائر أعماله اللاحقة، ثم يقوم بترجمة أعماله إلى الإنجليزية بنفسه بعد الانتهاء من كتابتها بالكيكويو. جدير بالذكر أيضًا أن رواية "حبة قمح" تعبّر بوضوح عن تبنّي وا ثيونغو للفكر الماركسي الفانونيّ، وهو تيّار ماركسي أفريقي بدأه الفيلسوف وعالم النفس المارتينيكي الكاريبي المعروف فرانس فانون، صاحب الكتابين الشهيرين "بشرة سوداء، وأقنعة بيضاء"، و"المقهورون في الأرض".

وأخيرًا، يرمي وا ثيونغو من خلال مشروعه ليس إلى تحرير الهوية الأفريقية من براثن الاستعمار الثقافي فحسب، بل إلى الوصول إلى تحقيق ما يسمى بفكرة "الأدب العالمي"، حيث تتشكل فسيفساء ضخمة من كافة ألوان الأدب والثقافة والفن الإنساني كلها جنبًا إلى جنب من غير تمييز أو تفضيل بعضها على بعض بدوافع عرقية أو عنصرية. وتلعب الترجمة الدور الأبرز في بناء هذه الفكرة بطبيعة الحال. وقد تحدث وا ثيونغو عن هذا الموضوع بشيء من الإسهاب في كتابه "غلوباليكتيكيات Globalectics: النظرية وسياسة المعرفة".

اقرأ/ي أيضًا:

فادي فيّاض.. أن تصير المشاعر ألوانًا

الدم أكثر كثافة من الماء