11-ديسمبر-2015

تمثال نجيب محفوظ في القاهرة (Getty)

نجيب محفوظ هو اسمه، محاولة ساذجة لأن يكون له من اسمه نصيب. لم يكن نجيب في أغلب ملاحمه الشعبية ذلك الرومانسي الباحث عن الهدوء والاستقرار والنهايات السريعة، كما كان في أحلامه الأخيرة – الجزء الثاني من "أحلام فترة النقاهة" (الشروق المصرية) التي صدرت مطلع كانون الأول/ديسمبر الجاري – ولكنه كان الباحث عن سر وجوده وعلته، وكاشف الخبيئة في صدور أبطال رواياته، وفي طريقه إلى تحقيق غرضه يقتل أبرياء، وينتصر لخونة وفتوات وشيوخ منصر، ويقلب الحقيقة، ويلبس الحق ثوب الخطيئة. كان يصيغ تناقضاته في شخصيات من لحم ودم على ورق القصص والروايات الأصفر الذي أصبح متهالكًا الآن بين رفوف المكتبة.

عاش نجيب محفوظ 95 عامًا من الحقيقة، وفي الحقيقة

كانت الكلمة الأثيرة له –ولو قيلت على ألسنة الخصوم وضاربي الودع أو لم تذكر– "آفة حارتنا النسيان"، ليس لأي سبب إلا إنه يريد الخلود.. ورحلة البحث عن الخلود لا ترحم، تحوّلك إلى صائد عقارب مهموم بأن تبقى، وتعيش إلى ما لا نهاية، تحرضك على رؤية المستقبل، بينما الرؤساء والوزراء والخبراء الاستراتيجيين لا يرون خطوتين أمامهم!

عاش نجيب 95 عامًا من الحقيقة، وفى الحقيقة. هل يصلح هذا التشبيه لوصف كاتب روايات وراوى أكاذيب وأساطير وملاحم شعبية جار عليها الزمن؟ نعم.. لقد رأى فى أبطاله ما لا نراه، ولا يريد أحد أن يعترف به، فجعل له الله من اسمه نصيبًا.. والخلود قدر العظماء وأصحاب الملاحم.

اقترب ورأى، وسجّل ما رآه في أحلامه الأخيرة: ثورات، وحروب، ومظاهرات، ورؤساء، ومارّة عابرين بلا معنى في الميادين العامة، وخوازيق، وعامة ودهماء ومتشردين أصبحوا نجومًا، وفتوات بلا تاريخ، وأسفلت يشرب دماء طاهرة ولا يشبع.

أحلام نجيب تتجاوز الزمان والمكان، يمكن أن تستبدل سعد زغلول ومصطفى النحاس والملك فاروق بالبرادعي وخالد سعيد وحسني مبارك، وعسكري الدرك يمكن أن تعتبره مخبرًا من أمن الدولة، وجيش العدو هو معسكر الثورة المضادة، فالرجل رأى زماننا بعين القرن العشرين، وكتبنا بمفردات عصره. الثابت الوحيد الذي لم يتغير لا في المشهد ولا المفردات هو المساجين والمعتقلين والضحايا والمظاهرات والثورة.. لأن الديكتاتورية في هذا البلد فرض عين وقضاء وقدر، وليست سُنَّة!

في "الأحلام الجديدة"، روى محفوظ تنبؤاته، جزء منها وقع، بعضها نعيشه الآن، والجزء الأكبر سيتحقق

القاعدة التي تقول إن الذي يكتب لا يموت على خطأ، فالكتاب - بعضهم – كالحمار يحمل أسفارًا لا تنفعه ولا تنفع أحدًا من بعده، عكس نجيب محفوظ.. لقد روى في "الأحلام الجديدة" تنبؤاته السياسية عن المستقبل، جزء منها وقع، بعضها نعيشه الآن، والجزء الأكبر سيتحقق.. فلا أحد يهرب من مصيره. 

حلم 211
وجدتنى أمام منصة يجلس عليها الزعيم سعد زغلول وإلى جانبه أم المصريين، وإذا برجل يتقدم زاعمًا انه الزوج الحقيقي للسيدة ويطلب منه أن تتبعه، وقدم للزعيم أوراقًا ولكنه نحاها جانبا وقال له: بيني وبينك القانون والشعب.

حلم 217
رأيتنى أسير فى مظاهرة ملأت الشوارع والميادين وفى مقدمتها رفعت صور مكبرة لأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفى النحاس، وتعالت الهتافات تنادى بدستور جديد يناسب العصر، ولم تستطع قوات الأمن تفريقها، وبدت كأنها مصممة على النصر.

حلم 226
رأيتنى مع كتيبة من الجنود فى مخبأ مغطى بالأعشاب نتحين الفرصة للخروج ومفأجأة العدو، وفى الوقت نفسه نخشى أن يعثر العدو على باب المخبأ فيسلط علينا غازاته ونموت كما تموت الفئران.

حلم 232
رأيتني في الغورية وجنود الشرطة أضعاف المدنيين، ورأيت أبي قادمًا وشرطي عن يمينه وآخر عن يساره فانقبض صدري وخفت أن يكون مقبوضا عليه، ولكنه سلم علىّ وقال لي: رأيتك مقبلًا وشرطي عن يمينك وآخر عن يسارك فخفت أن يكون مقبوضًا عليك.

حلم 234 
رأيتني صاحب مزرعة كبيرة أنشأت بها قرية حديثة فيها ماء نقى وكهرباء. وفي القرية أيضًا وحدة صحية ووحدة تعليمية ومسجد وكنيسة، وضاعفت أجور العاملين، وإذا بمأمور المركز يقول لي: أنت متهم بالفوضوية وإحراج الملاك من حولك وتحريض الفلاحين الأبرياء على التمرد.

حلم 239
وجدتني أسير بين الجموع الغفيرة، فهذا يوم الانتخابات العالمية التي تشارك فيها جميع الأمم، ورأيت الملوك والرؤساء والصفوة متنكرين في زي فتيات ريفيات ينشدن أجمل الأناشيد وأسماها، وأدليت بصوتي ورحت أتساءل عما ستسفر عنه الانتخابات غدًا، وأثر ذلك فى بلاد العالم وبلادي، أما مراكز البحوث فقد تنبأت بوقوع كوارث.

حلم 286
رأيتني في مظاهرة صامتة تملأ الشوارع والميادين، ولمحت بين المتظاهرين أناسًا ممن رحلوا عن دنيانا فى أزمنة مختلفة، وإذا بهم يخرقون الصمت ويحولون المظاهرة إلى مظاهرات هاتفة بهتافات عدائية وتكهرب الجو وأنذر بالخطر.

حلم 303
وجدتني مرة أخرى في هذا اليوم التاريخي أستمع إلى بيان الجيش الأول، وذهبت إلى الوزارة فلم أجد فى المكتب أحدًا، وجاء الوزير الجديد لأول مرة وطلب لقاء موظفي مكتبه، فذهبت وقلت له: لا أحد في المكتب سواي، فسألني عن عملي فقلت: السكرتير البرلماني. قال لي: وأين البرلمان؟ فقلت: يبدو يا معالي الباشا أنك لم تعرف بعد بعصيان الجيش، فنظر إلى غاضبًا فشغلت الراديو الموضوع بجانبه وسمع نداء الجيش فزايلته دلائل العظمة وغادر الحجرة مهرولًا.

حلم 355
وجدتنى فى حشد مكون من مليون شخص هي نسخ مكررة؛ فسُمرتهم غميقة وقاماتهم قصيرة وبدينة كأنهم براميل، وقسمات وجوههم غليظة، وإذا بالجيش يقدم تتقدمهم فرقة موسيقية تذيع لحنًا يبعث فى النفوس الرهبة والخوف، فتساءلت: ترى أهي مناسبة تاريخية أم جنازة قومية؟

حلم 359
وجدتني جنديًا متطوعًا في جيش الدفاع نقضي الليل في أطراف المدينة، وعند الفجر نصلي ثم نستمع إلى صوت العدو وهو يصلنا عبر الأثير فيهمنا بالكفر ويتوعدنا بالويل.

حلم 370
رأيتني أزور بيت جدتي وأراها بمجلسها بين الفرن والبئر، فرحبت بي كل الترحيب وقالت لي: تقبل دعائي أنت وذريتك، وبخاصة المساجين منهم.

حلم 386
وجدتني ضابطًا احتياطيًا في الفرقة المكلفة بحماية الجسور والأماكن الهامة عند اندلاع الحرب وهاجمتنا طائرات العدو وأخذت تزلزل الأرض بقنابلها وأصابت قوة الدفاع احدى طائرات العدو فأهلكت من في الطائرة إلا واحدًا تمكن من الهبوط بالبراشوت فاعتقلناه، وتبين لنا أنه الذي كان أستاذنا في اللغة الإنجليزية، وآدابها، فأكرمناه، وراح يحدثنا عن الحروب في الآداب المختلفة وكيف اندلعت بحل مشكلات ولكنها زادتها تعقيدا، وختم بقوله: العدل هو الحل. 

حلم 396
سمعت صوتًا آتيًا من الغيب يقول إنهم في العالم الآخر بدؤوا يشمون رائحة كريهة صادرة من عالمنا؛ نظر مستطلعًا فوجد السبب في الفساد المستفحل، فسألته: وماذا ستفعل؟ فقال: نحن نبدأ بالوعظ والإرشاد وإذا لم يجد ذلك عمدنا كارهين إلى وسائل أخرى. 

حلم 442
رأيتني أصافح زميلي القديم "ع" الذي فصلته من العمل لجنة التطهير عقب قيام الثورة فقال لي إنه تابع بعض أعضاء اللجنة، وكانوا أفقر منه وهم الآن يركبون السيارات ويقطنون القصور.

حلم 444
وجدتني مع صديقي الحميم "ع" وهو يدعوني إلى الانضمام إلى جماعة سرية تعمل لحساب الملك فرفض لا حبًّا في الثورة ولكن اقتناعًا ببعض إيجابياتها، وفي مقدمتها القضاء على النظام الملكي. 

حلم 463
وجدتني في مظاهرة ضخمة، نسير ثلاثة: صديقي "ك" وإلي يمينه شقيقته التي أحبها، وأنا إلي يساره، وما زلنا نسير ونهتف ويتقدم بنا العمر.

حلم 491
وجدتني في القاهرة أعايش أحداثها وسرى نبأ بأن الحكومة تعد مشروع قانون ذي أثر رجعي يحرِّم على النساء العمل وينشئ لهنَّ تعليمًا خاصًا يعدهنّ لشؤون البيت وتربية الأطفال وتركت الموظفات أعمالهنّ، وتظاهرن حتى تعطلت الحياة في القاهرة وجاء رجال الأمن ولكن بعد فوات الفرصة، ووقعت أحداث غضب وسقطت ضحايا حتى أعلنت الحكومة في الإذاعة والتليفزيون بأن ما ذاع بين الناس ما هو إلا إشاعة كاذبة، ودعت المتظاهرات إلى الانصراف بهدوء وعادةً بالتحقيق في أسباب الفتنة.

حلم 492
هذا هو الأمير توت عنخ آمون ينسلخ من مستقره كمومياء ليسير في شوارع القاهرة بعد منتصف الليل، وإذا بقوة من الشرطة تحيط به وتمضي إلى المعتقل، ولكنه يفلت منهم بطريقة سحرية ويعود إلى مستقره كمومياء، ولكن إدارة الأمن أعلنت أنها قبضت على مفجر القنبلة وأنه اعترف ودلهم على الخلية التي يعمل بها فقبضوا عليها والتحقيق مستمر. 

اقرأ/ي أيضًا:

"أن تحبك جيهان".. مجتمع على الحافة

إدوار الخراط.. سيرة انشقاق