25-أغسطس-2015

الشباب السوداني ضحية العنف وغياب الحرية (ماركو دي لاورو/ Getty)

بعد استقلال السودان عن حكم الاستعمار الإنجليزي في القرن الماضي، ظهرت أحزاب سياسية تابعة للسلطة وأخرى مستقلة هدف بعضها إلى التحكم في الشعب. وظهرت أيضًا الأحزاب المدعومة من الجماعات الدينية الصوفية السائدة في السودان، وبالتحديد حزب الأمة ومن خلفه الأنصار وحزب الأشقاء، الوطني الاتحادي لاحقًا، ومن خلفه الطريقة الختمية.

وعلى غرار السائد عربيًا، ازدهر النشاط السياسي للإخوان المسلمين في الجامعات السودانية حتى مثلوا القوة الحزبية الثالثة بعد الحزبين الطائفيين الكبيرين، الأمة والاتحادي، وقد انفردوا بحكم السودان بعد الانقلاب المعروف في 30 حزيران/يونيو 1989 برعاية زعيمهم حسن الترابي. واجه الإخوان العديد من الانقسامات، كغيرهم من الأحزاب الأخرى، وغيّروا اسم تنظيمهم مرات عديدة، جبهة الميثاق الإسلامية ولاحقًا الجبهة الإسلامية القومية، ثم حزب المؤتمر الوطني فحزب المؤتمر الشعبي.

لم تكن الجامعات السودانية ملعبًا للإسلاميين وحدهم، إذ يسجّل وجود تاريخي للحزب الشيوعي السوداني والناصريون والبعثيون. ووجدت إلى جانب هذه التيارات الرئيسية تيارات أخرى كالليبراليين والمستقلين والإخوان الجمهوريين والقوى السياسية الإقليمية المختلفة، وعلى رأسها القوى السياسية الجنوبية.

لم تكن الجامعات السودانية ملعبًا للإسلاميين وحدهم فيسجّل وجود تاريخي للحزب الشيوعي السوداني والناصريون والبعثيون

خريطة الأحزاب

مما لا شك فيه أن العملية السياسية لها أثر واضح على الحركة التعليمية بالسودان، حيث تمثلت جميع الأحزاب السياسية في نشأة الفكر الحديث وتخللها في الحراك الطلابي. فجميع الجامعات السودانية الحكومية والخاصة، توجد بها أحزاب سياسية، وأركان نقاش، وعمليات انتخابية للاتحاد الطلابي الخاص بها، عدا جامعة الرباط الوطني التابعة للشرطة السودانية، والتي تمنع منعًا باتًا أي نشاط سياسي بداخلها وتفرض أقصى العقوبات على الطلاب الذين يتجاوزون شروطها السياسية، كذلك الأمر ينطبق على أكاديمية كرري التابعة للقوات المسلحة. وفي خلاف ذلك من الجامعات، توجد مجموعات وأحزاب سياسية لها صوت كبير ومؤثر على البلاد.

وتلعب الانتخابات الخاصة باتحاد الطلاب في الجامعات دورًا كبيرًا في العملية السياسية، فإذا سيطرت أصوات حزب سياسي معين تابع للنظام الحاكم أو معارض له يبقى هو صاحب الكلمة خلال فترة توليه رئاسة اتحاد الطلاب، وقد تنتج قرارات ربما تعيق حرية التعبير المكفولة للأحزاب الأخرى من قبل دستور الجمهورية السودانية، لذلك تحرص الأحزاب السياسية المتمثلة في طلابها على أن تتم عملية الانتخابات بشفافية تامة وبعيدة كل البعد عن التزوير. لكن في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2011 حدثت إضطرابات في العملية الانتخابية للطلاب بجامعة أم درمان الإسلامية، والتي فاز بها طلاب حزب المؤتمر الوطني الحاكم بالبلاد.

أعلنت حركة الطلاب الإسلاميين الوطنيين، تنظيم الطلاب التابعين للمؤتمر الوطني، بجامعة أم درمان الإسلامية فوزها بانتخابات اتحاد طلاب الجامعة بالتزكية، بعد أن أعلن فجأة حل الاتحاد وعقد جمعية عمومية وفتح باب الترشيح خلال نصف ساعة وفتح باب الطعون خلال نصف ساعة. ورفضت الحركة الإسلامية الطلابية، المؤتمر الشعبي، نتيجة الانتخابات التي وصفتها بتزوير فاحش لإرادة الطلاب الذين لم يكن لديهم أدنى علم بهذه الانتخابات، وذكرت أنهم قصدوا ذلك ليضمنوا عدم منافسة أي حزب لهم مهما كانت ضعيفة. وصفت هذه العملية بأنها نفاق سياسي وسرقة في وضح النهار لحقوق الطلاب السياسية، وكشفت عن اتصالات بالقوى السياسية الطلابية لاتخاذ موقف موحد وفعال يكشف زيف طلاب المؤتمر الوطني، وسعيهم الدؤوب لإفراغ الحياة الطلابية من النشاط السياسي الحر. من جانبها أعلنت رابطة الطلاب الاتحاديين الديمقراطيين مقاطعتها للانتخابات بجامعة أم درمان الإسلامية، وقررت عدم الاعتراف بنتائجها وأكدت كشفها لتزوير الانتخابات.

وأصدرت الرابطة بيانًا اتهمت فيه طلاب المؤتمر الوطني بتزوير العملية الانتخابية، وأشار البيان إلى مقاطعة العملية الانتخابية بكافة مراحلها حتى لا تساهم الرابطة في إضفاء شرعية زائفة لتلك العملية وجميع مخرجاتها، وقرر عدم الاعتراف بما يسمى اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية، وأكد على كشف التزوير والتزييف واتخاذ الإجراءات القانونية. إذًا، العملية الطلابية في السودان، أخيرًا، ليست بخير على الإطلاق.

العنف الطلابي يتمدد

خرجت الأوضاع في جامعات السودان عن السيطرة، بسبب العنف. يقول طالب جامعة الخرطوم عوض خالد، المنتمي إلى أحد الأحزاب المعارضة للنظام الحالي "من الضروري جدًا أن يشارك الطلاب في أركان النقاش السياسي بالجامعات رغم الفوضى التي تحدث عقبها وذلك لعدم وجود سمة حرية التعبير بطريقة سلمية في نفوسنا، فحتى الآن لم تشهد دول العالم الثالث وأولها جمهورية السودان أي تظاهر أو نقاش سلمي،  الأمر الذي يخلق فوضى وبعثرة في الفكر المستقل ويخلق خوفًا من حرية التعبير".

أما كريم حبيب الله الطالب في جامعة السودان والمنتمي إلى حزب المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم بالسودان، فيعتبر أن حرية النقاش حق مكفول للجميع وأن "ما تنقله وسائل الإعلام من شائعات عن أحداث عنف وإجرام من قبل الحزب المنضم إليه لا تمد إلى الحقيقة بأي صلة، وأن الإعلام المعارض يسعى دومًا إلى فبركة الأحداث من أجل إرضاء أصحاب النفوس الضعيفة، الذين لا يثقون في قيادات الدولة الموقرة". ويلاقيه في ذلك محمد خال، أحد قادة الوطني المتخرج من جامعة النيلين، الذي يفترض أن المعارضة تعمل على تصفية حساباتها مع الوطني من خلال تحريك خلاياها المسلحة في أوساط الطلاب لإثارة العنف، وإيقاع ضحايا لكي تسوّق في الخارج لفكرة أن الحكومة هي سلطة قمعية بامتياز.

وفيما تصدر هذه المواقف من أحزاب السلطة، يتهم معارضون النظام السوداني بالقمع والدكتاتورية. وبين الطلاب المنقسمين، ثمة فئة ثالثة. تقول شهد محمد  طالبة العلوم التجارية في كلية شرق النيل، إنها "تفكر في الانتقال إلى جامعة خاصة تحرّم النشاط السياسي، مخافة تمضية سنوات إضافية قبل حصولها على شهادتها بسبب القرارات الإدارية المستمرة في إغلاق أبواب الجامعة إلى أجل غير مسمى، عقب كل حادثة عنف".

حكاية الشهيد محمد عوض

لم تعد الجامعات السودانية ساحة لتلقي العلم واكتساب المعارف فقط، بل باتت مكانًا للعنف الطلابي والموت أحيانًا، فقد لقي أكثر من 10 طلاب حتفهم منذ عام 2011 وحتى الآن، وكان آخرهم الطالب محمد عوض، الأمين العام للطلاب الإسلاميين بجامعة شرق النيل خلال شهر أيار/مايو الماضي، إذ خرجت الأوضاع عن السيطرة في "كلية شرق النيل" وفي "جامعة بحري". ففي الكلية الأولى، شرقي العاصمة السودانية الخرطوم، اندلعت معركة بين طلاب حزب المؤتمر الوطني الحاكم وطلاب مؤيدين لـ"الجبهة الثورية" التي يخوض جنودها معارك ضارية ضد الجيش الحكومي ومليشيات النظام في ولايات النيل الأزرق جنوب كردفان ودارفور، ومع تبدد غبار المعركة التي استخدمت فيها الهراوات والعصي والسواطير، ظهرت الخسائر المؤلمة.

توفي الأمين العام لطلاب "الوطني" في الكلية، محمد عوض الزين، وأصيب ثلاثة من زملائه إصابات متفاوتة، فضلًا عن نشوب حريق في معظم مباني الكلية، وفي "جامعة بحري"، شماليّ الخرطوم. هاجم طلاب المؤتمر الوطني تجمعًا طلابيًا، وأجبروا طلاب دارفور على إبراز بطاقات هويتهم بحثًا عن منتسبين إلى "حركة جيش تحرير السودان" المتمردة، بقيادة عبد الواحد نور، أما السبب الحقيقي فكان الانتقام لزميلهم القتيل في كلية شرق النيل.

لقي أكثر من 10 طلاب حتفهم منذ عام 2011 وحتى الآن

... وعلي أبكر موسى إدريس

تعود ملابسات مقتل ثلاثة طلاب من دارفور العام قبل الماضي في جامعة الجزيرة بوسط السودان، لنزاع بين طلاب السنة الأولى بجامعة الجزيرة من أبناء دارفور ورابطتهم بالجامعة من جهة، وإدارة الجامعة واتحاد الطلاب الموالي لحزب المؤتمر الوطني من جهة أخرى، بسبب رفض الإدارة إعفاء الطلاب من الرسوم الدراسية، كما نصت اتفاقية أبوجا للسلام في 2005 والقرار الجمهوري الصادر بهذا الخصوص. ووفقًا لإفادات سابقة من عدد من أعضاء رابطة دارفور بالجامعة فقد اختفى ستة من طلاب الرابطة، خمسة منهم من طلاب السنة الأولى في ظروف غامضة.

وبينما تأكد مفارقة ثلاثة طلاب للحياة وهم محمد يونس نيل وعادل محمد احمد حماد، وهما طالبان في السنة الأولى بكلية الزراعة بجانب الصادق يعقوب عبد الله في السنة الثانية بنفس الكلية، استشهد الطالب علي أبكر موسى إدريس،  في السنة الثالثة كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، بعد تعرضه لطلق ناري عقب مظاهرة طلابية في يوم الثلاثاء 11 آذار/مارس الماضي من عام  2014، ثم تفاقمت الأوضاع سوءًا في أعقاب احتدام الصراع بفعل حرق داخليات شمبات وعدد من مكاتب الأساتذة.

اضطرت الجامعة وقتها لإصدار قرار بإغلاق أبوابها. وبعد استئناف الدراسة دخل الطلاب في إعتصامات مفتوحة استغرقت 38 يومًا، طالبوا فيها بتقديم الجناة للمحكمة وتطهير مسجد الجامعة من الأسلحة، وحل الوحدات الجهادية التابعة لحركة الطلاب الإسلاميين الوطنيين. وجرت محاولات عديدة لفض تلك الإعتصامات ولكنها باءت بالفشل وأدى تمسك الطلاب بمطالبهم المشروعة إلى توتر الأجواء داخل أسوار الجامعة وخارجها، إلا أن الاعتصام أوجد مبررًا لاشتعال العنف من جديد لينجح في توحيد رؤية أساتذة الجامعة وطلابها، وتم توقيع أتفاق إطاري لتحقيق الاستقرار ونبذ العنف في الجامعة، وتوافقت الأسرة الجامعية لأول مرة على تصفية الوحدات الجهادية باعتبارها سببًا أساسيا في اندلاع العنف، لكن الطلاب أعلنوا مقاطعتهم امتحانات حزيران/يونيو عقب إصدار مجلس العمداء قرارًا بنهاية العام الدراسي قبل إنهاء المقررات وقتها.

ثلاثة من الطلاب الإسلاميين الوطنيين انهالوا على أخيهم ضربًا مبرحًا ففارق الحياة بين أيديهم

...ربيع أحمد عبد المولى

في كانون الأول/ديسمبر 2011، شهدت جامعة القران الكريم أحداثًا لم يكن يتوقعها أكثر المتشائمين، ولم يكن أحد يتصور بأن طلاب مثل هذه الجامعة الدينية سوف يصبحون ضحايا لعنف طلابي نتيجة صراعات النخب السياسية. ثلاثة من الطلاب الإسلاميين الوطنيين انهالوا على أخيهم ضربًا مبرحًا، ففارق الحياة بين أيديهم. وقفوا ذاهلين أمام جثمانه لما يقارب الست ساعات، حتى أكملت مركزية طلاب المؤتمر الوطني ترتيباتها بعد أن تبرأت من الطلاب الثلاثة الذين صاروا قتلة. هكذا كان المشهد قبل أن تحمل صحف اليوم التالي خبر مقتل الطالب بجامعة القرآن الكريم كلية الشريعة والقانون ربيع أحمد عبد المولى على يد أربعة من طلاب المؤتمر الوطني من بينهم أمين التنظيم بالجامعة داخل مباني إتحاد الطلاب!


اتحاد الطلاب: مع الحرية... ولكن!

بعد أن لقي الطالب محمد عوض الأمين العام السابق لإتحاد طلاب جامعة شرق النيل مصرعه، إثر أحداث عنف بين طلاب موالين لحزب المؤتمر الوطني، وآخرون يناصرون الحركات المسلحة بدارفور في الجامعة الواقعة بمدينة بحري، شمالي العاصمة الخرطوم التقينا رئيس إتحاد طلاب ولاية الخرطوم مهندس مصعب محمد عثمان للتحدث عن العنف الطلابي بالجامعات السودانية.

أشار عثمان إلى أن "المفهوم العام للعنف الطلابي هو إحدى الوسائل الدخيلة على المجتمع الطلابي وهذا النهج لا يتناسق مع مسألة الحوار والشورى والحرية، وأنه كرئيس لإتحاد الطلاب بولاية الخرطوم ضد كل أشكال العنف اللفظي والجسدي". كما دعا إلى تعزيز منهج الحوار مضيفًا أنه "يدعو المؤسسات التعليمية للتعلم وإبداء الرأي وتعزيز وبناء ثقة الطالب". أما عن حادثة اغتيال الطالب محمد عوض داخل إحدى الجامعات، فقد رد رئيس الإتحاد "بالإشارة إلى مجموعة من الحركات المسلحة بالفوضى مدينًا الاغتيال في حد ذاته، باعتبار الطالب روح بريئة، وأن له مستقبلًا أكاديميًا". وفي المحصلة، وبعيدًا عن التصريحات، وفي مثل هذه الظروف، الصروح الأكاديمية جميعها في خطر.