22-فبراير-2019

نحن الآن في زمن الآباء القتلة، بترك يد الدولة طليقة، وتبرير العنف نحو الشباب (أ.ف.ب)

عندما تتابع نشرات الأخبار العالمية، أو تطالع الصحف المحلية لا تسلم عادة من الشعور بالأسف، وينتهي يومك محاصرًا بالدماء والأشلاء ومخلفات الحروب البشرية، لا أقل من كونك حزينًا ومنتهكًا، وربما تتحول بعد إدمان المتابعة والتصالح مع العنف إلى مُشاهِد في حالة حرب دائمة، لا تعبأ كثيرًا بتوقفها، أكثر من تتباهى بانتصاراتك فيها.

قبيل ثورات الربيع العربي، تطورت فكرة الأبوية السياسية، لدرجة أن المجتمع ظل يرفض مبدأ الثورة بطابعها الشبابي

يمكن أن نأخذ مثالًا إلى جانب إلياذة هوميروس، ففي الحروب الشباب يموتون والعجائز يتكلمون. كلنا نعلم هذا، ونعلم مدى خيبتنا في جيل الآباء، الجيل المتحكم بقسوة في زمام الأمور، ولا يرغب أبدًا أن يتخلى عن أدواره القذرة.  

اقرأ/ي أيضًا: فبراير الحزين.. رسائل السيسي عبر الجثث

قبيل الربيع العربي تطورت فكرة الأبوية السياسية لدرجة أن المجتمع ظل يرفض مبدأ الثورة بطابعها الشبابي. وكان ثمة خطاب رائج وقتها يلتمس العذر للحاكم في كل تصرفاته، وينزع دائمًا إلى فكرة سحب وظيفة الآباء على الرؤساء، وهو خطاب إعلامي شاع وقتها، على شاكلة: "أعتبره أبوك يا أخي"، عندما تفكر في الإساءة لأحد رموز الدولة!

وقبل ذلك أيضًا تم اختراع المجتمع المدني بسقف منخفض من الحرية، حيث يبدو المجتمع كما لو أنه تعبيرًا عن رفض المشاركة السياسة، والتبرع للشباب بميادين صغيرة لإفراغ طاقتهم فيها، ومنحهم شعورًا زائفًا بجدوى ما يقومون به.

مثلًا، عندما نحدق في وجوه شباب مصر الذين أُعدموا بدمٍ بارد، لا يمكن أبدًا تمرير هذه النهاية غير المنطقية، والتي تجعل من الخصومة السياسية معركة تستباح فيها كل القيم والحقائق، وبالقدر نفسه ترنو صورة القاضي العجوز، وهو يتلو أحكام الإعدام، لتدرك بشكل مأساوي، أن النهايات البشعة في الغالب تكون معتمدة على الرجال العجائز القذرين، وهم يطاردون الشباب الحيوي النضير.

كنت قد انتبهت على جدار تفاعلاتنا الإسفيرية، أن العالم يعيش حالة عداء غريب مع الأبناء، كل محاولات الآباء لإعدام هذا الجيل تبدو ناجحة تقريبًا؛ الآباء أكثر خبرة ودراية في إجهاض نطفاتهم، ما يعني أن البطرياركية في أقسى تجلياتها، ساعية إلى العودة بشراهة.

يمكنك فقط أن تتخيل حفل الإعدام الدموي في مصر، وكيف أزهقت البلاد مستقبلها ورصيدها البشري، إلى درجة أن قتل الشباب بات مثل إلقاء تحية على منظمات حقوق الإنسان.

وما يحدث في السودان أيضًا من موت وتنكيل بأحلام الشباب، ليحكم رجل في نهايات عقده السابع، شيء مرعب، بينما جثة بوتفليقة في الجزائر تسخر من الشباب والشهداء؛ الجثة التي يريد الحرس القديم تحنيطها في كرسي الحكم مرة وللأبد، لينعموا بظل سُلطتها، وهذا يعني أن الآباء أنانيون وقتلة ولا يتورعون إطلاقًا في سحق من كل يتحدى شراهتهم للسلطة، أو يؤرق تطلعاتهم الهدامة الغامضة.

وفي السودان مثلًا، بدأت حكومة الإنقاذ عهدها بالشيوخ، وأعلنوا "الجهاد" لتحرير الجنوب من الحركات المتمردة، عطفًا على شعارات "أمريكا روسيا قد دنا عذابها". ومات في حرب الجنوب أكثر من 25 ألف شهيد، جُلّهم من الشباب والطلاب، الذين ماتوا لغير هدفٍ واضح، رغم أن تلك الحرب اكتسبت مسحة دينية من الطرفين، فالدكتور جون قرن قاتل باسم المسيح، والراحل الترابي أيضًا قاتل بدافع تمكين الدولة الإسلامية. 

وكان ذلك قبيل أن تتراجع الحكومة وتوقع ميثاقًا للسلام لاحقًا، يسمح برحيل الجنوب جنوبًا، وبدا أن ذلك العرض نوعًا من البروباغندا لإضفاء هالة من القداسة على السُلطة وطلابها، لا سيما وأن الشباب الذين نجوا من الموت، كان مصيرهم التجاهل، كما لو أنهم استنفدوا أغراضهم، أو أن المرء "يفقد أبعاده جميعًا عندما يضيع نقطة البداية"/ على حد تعبير الصادق النيهوم.

وبالقدر المؤلم نفسه، ربما تبدو ثمة مقاربة تاريخية، عندما تقرأ تفاصيل لوحة الرسام الروسي إيليا ريبين، وهو يجسد إيفان الرابع، قيصر روسيا، محتضنًا ابنه في حالة ذعر، وذلك بعد أن قتله في إحدى نوبات الغضب.

إيفان الرهيب اشتهر بقسوته وفقدانه لأعصابه بسرعة، لكنه في تلك اللوحة التي قتل فيها ابنه، وفي الطبيعة أيضًا، كسى وجهه هول الصدمة عند إدراكه لفعلته، ونجحت ريشة إيليا في تصوير هلع الأب بشكل هائل، عندما ركزعلى العينين وتعمد إظهار الكمية الهائلة للمشاعر المنبثقة منها بشكل لا مثيل له، ومع ذلك فهو أب قاتل.

لوحة إيفان الرهيب
لوحة إيفان الرهيب لإيليا ريبين

ليس في المطلق أن القتل ماديًا فقط، ربما يكون معنويًا، أو بالامتنان، كأن تجبر ابنك على العمل في سن صغيرة، أو تنتظر ثمنًا مقابل إخراجه للحياة، بعد أن نهض في حجرك. ولعل أبرع من جسد ذلك المشهد الفنان العالمي دينزل واشنطن في فيلم "أسوار" المقتبس عن مسرحية أوغست ويلسون.

تُظهر شخصية البطل رب الأسرة العظيم الذي يخيط الشوارع والأزقة ساعيًا إلى لقمة العيش في أبسط الأعمال وأحقرها. لكن أخطر وأكثر مشهد ربما كان خالدًا في السينما الأمريكية؛ مشهد الأب دينزل واشنطن، وهو يستقبل تساؤل الابن المباغتة: "كيف لك ألا تحبني؟!"، فيرد عليه مستنكرًا: "أي قانون يقول أنه عليّ أن أحبك؟". ومن ثم يبذل لنا درسًا عظيمًا لا تمنحه الحياء بسهولة، وهو أنه على الولد أن يكد ويكدح ويشق طريقه لوحده، لأن الحب يعني أن يستأثر بكل ثروة الحب، أو هو شيء من ذلك القبيل، كما تخيله أوغست ويلسون.

نحن الآن في زمن الآباء القتلة، بترك يد الدولة طليقة، وتبرير العنف نحو الشباب، وهذا يعني أننا جميعًا من المحتمل أن نكون ضحايا. وفي الوقت نفسه يبحث كبار رجالات الدولة عن وضع مريح للتقاعد، أو رفع سن المعاش لتناسب مخاوفهم من الجلوس على كرسي القماش، حتى وإن كان ذلك على حساب طوابير البطالة الممتدة في عالمنا العربي.

 نحن الآن في زمن الآباء القتلة، بترك يد الدولة طليقة، وتبرير العنف نحو الشباب، وهذا يعني أننا جميعًا من المحتمل أن نكون ضحايا

علاوة على جهود الساسة الكبار في التشبث بمواقعهم، وطرد الأفكار التي تطالبهم بالتنحي، وقتل كل من يفكر بذلك، تحديدًا الأبناء، مصدر الخطر بالنسبة لهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

انتفاضة السودان تصعد.. الاحتجاج ممارسة شاملة

في الذكرى الثامنة لثورة فبراير اليمنية.. أين ذهب شبابها؟