11-ديسمبر-2018

كاريكاتير لـ أمجد وردة/ سوريا

يحرص  بشار الأسد في لقاءاته مع وسائل الإعلام الأجنبية على الظهور بمظهر الرئيس الواثق من نفسه، سواء عبر إنكاره الحازم  للواقع كما في معرض رده على الصحفي الذي أشهر في وجهه ذات يوم صورة الطفل عمران دقنيش الغارق في صدمة رؤية موت أخيه علي تحت أنقاض بيتهم، الذي أحالته الطائرات الروسية في حلب الشرقية إلى غبار؛ "إنها مفبركة" قال. فكيف به إذًا إزاء وزرائه المساكين الذين ما كانوا ليكونوا في مناصبهم لولا مشيئته الرئاسية، التي تستبطن في داخلها قوة تعيينهم وصرفهم من الخدمة دون أي هواجس أو عقبات تذكر، كون قيمتهم واعتبارهم لا تتجاوز اعتبارالموظف الإداري الذي شاءت رغبة رئيسه المتعالية أن تتكرم عليه بالعمل تحت أمرتها.

يتعامل  الأسد الابن مع الدولة والمجتمع بمنطق المزرعة الخاصة الضيق والعلني

في توظيف جديد لفائض القوة التي يستشعرها الرجل في ذاته، يضرب الأسد عرض الحائط بوضعيته السابقة كرئيس لجمهورية قد ينطبق عليه ما ينطبق على رؤساء الجمهوريات من خطر المسائلة، سواء لناحية سوء استخدامه للسلطة أو خطر عدم التجديد  له لأكثر من دورتين انتخابيتين، ليرتقي إلى وضعية الزعيم الذي ما أن يقول شيئًا حتى يطاع ويصدق حتى ولو كان قوله مليئًا بكل ما هو مناف لكل عقل ومنطق.

اقرأ/ي أيضًا: مافيوية نظام الأسد.. شظايا المجتمع ضد نفسها

من وضعيته المتعالية، كزعيم فوق النقد والمساءلة وارتكاب الخطأ، يقدم الأسد قراءته الخاصة للفساد الذي يعصف في جمهوريته المتهالكة على طول البلاد وعرضها، فلا يعثر عليه في انخفاض القوة الشرائية لراتب الموظف الذي ينوء تحت عبء تأمين حاجته المتزايدة، ولا في السياسة المتعمدة التي تقوم على إفساد جميع الناس بقصد وضعهم تحت خطر التهديد والمساءلة بقصد شل قدرتهم على فضح سياسات الملك العاري من أية مصداقية، وإنما في الثغرات والعيوب والاستثناءات وغموض الإجراءات التي تحفل بها قوانين الدولة، دون أن يشرح مثلًا سر الغموض الذي قد يعتري إجراء تسليم الهوية الشخصية لصاحبها، إلا بحصول الموظف المسؤول عن تسليمها على رشوة علنية كما لو كان الأمر مشابه لعملية تحصيل رسم حكومي، أو حتى الإجراءات التي كان  يلفها الغموض، تلك التي مكنت اللواء هشام تيناوي، مدير مكتب وزير الداخلية، من اختلاسه ما يقارب الملياري ليرة سورية، هي حصيلة مخصصات أفراد شرطة الأسد وتوظيفها في شركة صرافة خاصة به، وهو الذي كان مكلفًا قبل أيام من إلقاء القبض عليه بإلقاء محاضرة في معهد تدريب الشرطة بعنوان "ثقة الجمهور بالشرطة"، كان موضوعها الأساسي يدور حول "العفة".

في مقاربة الأسد لفهم ظاهرة الفساد التي تخترق جميع مفاصل دولته، يجد المرء نفسه أمام حاكم مسكين ذي نية طيبة لا تخطئها العين، يقف عاجزًا مشدوهًا أمام شبكة الثقوب الكثيرة التي تعتري جسد القوانين الناظمة لحياة دولته، تلك الثقوب التي ما يفتأ الفاسدون ومستغلو السلطة الأشرار من التسرب عبرها مرارًا وتكرارًا، دون أن تتمكن أجهزته الأمنية من القبض عليهم، أو تحديد الجهة أو الثقب الذي يسلكوه، الأمر الذي يجعلهم في منأى عن كل عقوبة قد تطالهم، لأن الأسد وأجهزته الأمنية لا يمكن  لهم أن يأخذوا موظفيهم المحترمين على الشبهة، لمجرد قيام أحدهم  بالتسرب عبر أحد الثقوب أو الإجراءات القانونية، ويفضلون بدلًا من ذلك التأكد من تورطه في فعل الفساد الشائن عبر الحصول على أدلة وإثبتات دامغة لا مجال لدحضها، ولا أدل على ذلك من صبر الرئيس نفسه الذي ظلت التقاير الأمنية تصل إلى مكتبه الرئاسي طيلة الثماني سنوات الماضية، من عمر الأزمة حول الهدر والفساد واستغلال السلطة في القطاع الطبي دون أن يتمكن من تحديد المسؤولين الحقيقين المتسببين بهذا الخراب.

يحاول الأسد أن يراوغ في إخفاء طبيعة دولته التي تصر على جعل الفساد جزءًا طبيعيًا من الخبز اليومي لمواطنيها، عبر إصراره على تقديم اقتصاد دولته كاقتتصاد دولة طبيعي، يعاني من بعض الأزمات الهيكلية التي قد تصيب جميع الدول، ومنها الفساد بطبيعة الحال، إلا أن الرجل لا يقدم دليلًا مقنعًا عن الترتيب الذي احتلته دولته في تقرير "منظمة النزاهة والشفافية"، التابعة للأمم المتحدة لعام 2017، الذي حصلت بموجبه على المرتبة  الـ 178 من أصل الـ 180 دولة من دول العالم، بحيث لا يتفوق عليها في هذا المضمار سوى دولتي جنوب السودان والصومال.

إن رغبة المرء إزاء تفسير تلك النتيجة المخزية لوضعية الاقتصاد الأسدي، لا يمكن التوصل إليها إلا عبر مقاربة الدولة الأسدية وفق المنهج الخلدوني لمفهوم الدولة، حيث تظهر الدولة الأسدية على حقيقتها من حيث كونها  تظافرًا واتحادًا لمفهومي العصبية مع المُلك، أي السلطة، فغاية العصبية التي ترأسها حافظ الأسد اعتبارًا من عام 1968، والتي كانت تعتمد بشكل رئيسي على الجنود والضباط الموالين له، لم يكن هدفها من الوصول إلى الحكم أو السلطة عبر الغزو أو الانقلاب العسكري، بغرض القيام بإدارة الدولة أو مؤسساتها على نحو أكثر عقلانية من الشكل الذي كانت تدار به من قبل صلاح جديد، بل كانت في جوهرها عملية وصول إلى السلطة أو الحكم بقصد التنعم بخيراتها، كونها مصدرًا رئيسيًا لكل غنيمة حالية أو متوقعة.

يحاول الأسد أن يراوغ في إخفاء طبيعة دولته التي تصر على جعل الفساد جزءًا طبيعيًا من الخبز اليومي لمواطنيها

يستشيط بعض السوريين غضبًا من الطريقة اللاعقلانية التي أدار وما يزال يدير بها آل الأسد موارد بلدهم الاقتصادية، وخاصة تلك المتعلقة بالقطاع العام التي أدت أما إلى تدميره أو نهبه، غير متنبهين أن عائدية هذه الموارد قد آلت منذ انقلاب الأب إلى ملكية آل الأسد ومن والاهم، وأن الغاية لم تكن رفاهيتهم أو تأمين فرص عمل لهم كما يعتقدون وإنما وسيلة مقنعة لتأمين غنائم دائمة لا تنضب، وعندما فشلوا في استدامة وتشغيل الدجاجة التي تبيض لهم ذهبًا أو مالًا، لأن الموارد التي تدار بطريقة النهب سرعان ما تصل إلى تدمير رأسمالها المنتج على نحو يتعثر تجديده إلا عن طريق ضخ رأسمال جديد.

في مواجهة وضعية الأرض الخراب التي آلت إليها مصانع الأسد، والتي لم يبق منها سوى هياكل الأبنية وبعض البنى التحتية التي نجت من النهب كشبكات الكهرباء والماء، أوعز الأسد الابن لرئيس وزرائه ليطلع صيغة التعاون المشترك أو الفعال، والقاضي بتأجير مصانع وممتلكات الدولة إلى القطاع الخاص، والذي ما هم إلا مجموعة منتخبة من كبار التجار والصناعيين الفاسدين المقربين من بشار الأسد، الذي قرر الاعتماد عليهم لرفد خزينة من غنائم وأسلاب السوريين من جديد.

اقرأ/ي أيضًا: الجذر الروحي للتعفيش

أثبتت ردة فعل أنصار النظام، المتمثلة بالتشبيح والتعذيب والمشاركة في جرائم القتل الجماعي والتعفيش وغيرها من أنماط السلوك العدواني الأخرى، سواء كان أولئك الأنصار أفرادًا في الجيش أو الأمن أو مجرد موظفين في السلك الحكومي أو من يقع في محيطهم الاجتماعي، على مطالب الناس عام 2011 بالتحرر من نظام الفساد الذي يرعاه نظام آل الأسد؛ أثبتت عمق الاستثمار الذي وضعه الرجل في سبيل الحفاظ على سلطته وامتيازاته، سواء عبر محاصصته لهم في النهب الذي يجنونه بواسطة نظام القطعة والمفرق أو عبر نظام الجملة. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى الجدية التي تضمنها خطاب الأسد في اجتماعه بوزراء حكمه والذي لوّح عبره بالتصدي الجاد لظاهرة الفساد، بما يعني من توقف الرئيس عن تقاسم الغنائم التي حازها بموجب سلطته مع الأشخاص والجماعات التي استماتوا في الدفاع عن نظام حكمه، إيذانًا باستئثاره بكامل الحصة وصولًا إلى افتراقه عنهم والقطيعة معهم. إلا أن طبيعة الخطاب وجوهره لا تجنح نحو التخلي التام عن الشركاء القدامى واستبدالهم بجدد، وإنما بتبليغهم رسالة مفادها عدم قدرة النظام، أي الأسد، على تحمل حصتهم من النهب الذي يجنونه من قطاعه الحكومي، والتي سوف يتم تقليصها أو حرمناهم منها على نحو مؤقت، خاصة مع خروج معظم حقول النفط والغاز والقمح والنفط من مجال سلطته لصالح القوى المتحالفة مع الأمريكان، تلك الثروات التي كان يستعين بها لمنحهم من عطاياها.

يعيش نظام الأسد المملوكي وأنصاره اليوم أسوأ مراحل حياتهم الارتزاقية، فلا هو قادر على القيام بغزوة خارجية جديدة كتلك التي قام بها اتجاه لبنان عام 1976، التي مكنته من تأمين مصدر نهب دائم لجيشه وقادته من جيوب اللبنانيين، كما مكنته من احتكار تهريب الهروين لصالحه الشخصي الذي كان يدرعليه أرباحًا سنوية تقدر بملياري دولار، ولا هو على علاقة جيدة مع دول الخليج التي كانت تضخ في اقتصاد دولته المتداعي سنويًا ما يقارب المبلغ نفسه الذي كان يدره عليه الاتجار بالمخدرات.

في ظل جو نهب داخلي لا أمل بتنشيطه حاليًا، بسبب عمليات التعفيش التي أكلت الأخضر واليابس، مضافًا إليه واقع هروب معظم رأس المال الخاص الذي لا يمكن أن يزدهر في ظل تغول التشبيح الأمني الماحق لكل وجود وإنتاج واستثمار ومن ثم لمال قابل للسلب، مصحوبًا بسياسة التهجير القسرية التي عجلت بخسارته لجميع المنافع الاقتصادية التي كان بإمكان تحصيلها من جيوب ما يقارب الستة ملايين سوري مهجر في جميع أصقاع الأرض.

 إفقار جميع شركاء النظام في النهب الذي تعرض له الشعب السوري قادم لا محالة

في ظل هذا الجو من نقص الموارد المالية والاقتصادية سيضطر النظام المافيوي الأسدي إلى كبح جماح شركائه، عبر التلويح لهم بقوانين مكافحة الفساد والدخل غير المشروع، كما سيلجأ في كثير من الحالات إلى سياسية المصادرة للأموال ذات القيمة التي جمعها شركاؤه عبر غزواتهم المتعاقبة على أملاك الشعب السوري، لاعتقاده العميق بأن كل مال حصل عليه شبيح أو شريك أو كائنًا ما كان، ما كان له أن يحصل عليه لولا تغاضيه المضمرعن ذلك السلب أو النهب الذي يجب أن يعود في النهاية لبيت ماله الخاص.

إن إفقار جميع شركاء النظام في النهب الذي تعرض له الشعب السوري قادم لا محالة، وسيذوق المنتفعون ألوانًا مختلفة من الذل والتشاحن على الموارد المحدودة التي تبقت بين يدي النظام الآثمتين، وسيكتشفون عاجلًا أم آجلًا أن زمن العيش على حساب دماء السوريين وأرزاقهم قد ولى إلى الأبد، ذلك لأنه لا يمكن لمتبطر أو صاحب نعمة محدثة أن يعيش على حساب الآخرين الذين قام بإزالتهم من الوجود.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كوابيس ذاكرة سورية

معرض مكتبة الأسد للكتاب.. رسالة الثقافة الدموية