19-مايو-2017

عناق بين ساراماغو وغراس

اندمج مصطفى صادق الرافعي في الكتابة، وكان يملي على صديقه محمد سعيد العريان لأسباب صحيّة تمنعه من القلم، فكان يناقشه ويحاوره فيما يشقّ على الناس فهمه من أسلوبه، الذي كان صعبًا وقديمًا: "ثم لا أزال به حتى يغيّر العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخف على السمع، وكان ينكر ذلك عليّ أول مرة، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحيانًا يوشك أن يغضب، وأنا أتلطَّف له وأحتال عليه، ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي عليّ العبارة من المقال، ثم يسألني: ماذا فهمت مما كتبت؟". 

دور المحرر الأدبي لا يتوقف فقط عند مراجعة الأخطاء اللغوية، إنما يصل إلى مراجعة المنحى السردي

انتهى الرافعي إلى طرح السؤال، وإذا كان ما فهمه العريان يطابق ما في نفسه، أكمل إملائه، ولو اختلف، يعود فيحذف ويضيف ويعدل ويغيّر حتى يتضح المعنى، وبعدها أطلق عليه اسم "العقل المتوسط من القراء"؛ لأنه، بالنسبة له، ترمومتر الكتابة. 

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة في اللغة الكرديَّة: محاولة ردم الهوّة المعرفيَّة في زمننا الرّاهن

طلب نجيب محفوظ من طه حسين مراجعة رواية "أولاد حارتنا"، وقال غابرييل جارسيا ماركيز، في حوار صحفيّ، إنه حذف أكثر من مئة صفحة من رواية "مئة عام من العزلة" بناء على طلب المحرر الأدبي، وكان الألماني غونتر غراس "رجله على رجل" المحرر الأدبي الخاص به في أي مكان، وكانت ريتا بيس تضع اللمسات الأخيرة على روايات جوزيه ساراماغو، الحاصل على "نوبل للآداب". 

ووقعت عشرات الأخطاء في الروايات بسبب تجاهل دور المحرر الأدبي، ففي رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير تغيّر لون العينين من الأزرق إلى الأسود القاتم إلى البني، ونشرت بهذا الخطأ، وامتنع المؤلف من تصحيحها في الطبعات التالية. 

دور المحرر الأدبي لا يتوقف فقط عند مراجعة الأخطاء اللغوية أو تنقيح العمل، إنما يصل إلى مراجعة المنحى السردي، الذي يربط المقدمة بالوسط والخاتمة، والتدخل في تسلسل الأحداث والزمن والحبكة، وتوجيه صاحب العمل إلى إضافة فقرة أو حذف صفحات كاملة جاءت – من وجهة نظره – بسبب اندماج الروائي في الكتابة، فهو حارسه الأمين، لكن غرور الكتاب العرب وعدم مؤسسية النشر – فأغلب الدور مشروعات فردية تستهدف تقليل النفقات - منع وجود المحرر الأدبي بشكل  احترافي. 

ووظيفة المحرر الأدبي تتطلب صفات مهنية معيّنة، أبرزها القدرة على النقد وتقديم ملاحظات وطرح الهوى الشخصي من الرأي، وتحييد المشاعر تجاه الكاتب أو العمل، وقوة الحاجة، والثقافة العالية لإرشاد الروائي إلى حلول. 

لم تسجّل الذاكرة العربية محررًا أدبيًا أثبت نفسه أو كفاءته، أو استطاع أن يتحول من الهواية، أو خدمة صديقه الكاتب بشكل شخصي، إلى الاحتراف أو الشهرة كـ"محرر أدبي"، إنما توقَّفت كلها عند المحاولات، على عكس صناعة النشر في العالم. 

اشتهر عشرات المحررين الأدبيين، أبرزهم "كشّافي المواهب"، وهم: الأول، الأمريكي روبرت غوتليب محرر الروائي الأمريكي جوزيف هلر، والنمساوي فرانز بلي، والإيطالي باساني، والألماني الشهير، فرانز كافكا وغيرهم الكثير. والثاني هو المحرر الأدبي الشهير، ماكسويل بيركنز، اكتشف عددًا من الأدباء، أبرزهم إيرنست هيمنغواي، الذي تبناه منذ شبابه وبداية دخوله الوسط الأدبي حتى حصل على نوبل للآداب عن رواية "العجوز والبحر".

 تطلب دور النشر العربية مقابلًا ماديًا كبيرًا يدفعها إلى التغاضي عن جودة الكتاب

عربيًا، كانت لدى دار المعارف المصريّة تجربة خاصة في التحرير الأدبي، فكان مالكها شفيق متري يؤدي دور المحرر، ومن بعده تولى الشاعر عادل الغضبان، أشهر المحررين الأدبيين العرب، المسؤولية، ومن بعدهما، انهارت دار المعارف، واختفت تجارب التحرير الأدبي، مع "إسهال" دور النشر العربيّة، والمصرية تحديدًا، التي سمحت لأي عابر على استعداد أن يدفع ويتحمل تكاليف الطباعة، أن ينشر كتابه. ما دفع سياسة النشر إلى البحث عن المال، وليس الكفاءة، فالدور تطلب مقابلًا ماديًا كبيرة يدفعها إلى التغاضي عن جودة الكتاب، وأكثر من ذلك، إنها تجاري ذوق الجمهور، فتستسلم لكتب الخواطر والسخرية ذات الجودة الأدبية المحدودة، خاصة دور النشر الشبابية. 

اقرأ/ي أيضًا: في صندوق بريد فرجينيا وولف

فبغرض التوفير، أصبح مالك دار النشر يؤدي دور المحرر الأدبي، فيراجع الأعمال لضبطها أخلاقيًا وسياسيًا بما يتناسب مع آرائه، ولا يتدخّل في الجودة، فهو في النهاية يعمل بنفسيّة التاجر، الذي يريد أن يبيع حتى يضمن بقاءه، ومع أول أزمة مالية تتعرض لها دور النشر، تستغنى عن المحرر الأدبي – إن كان موجودًا – باعتباره "عمالة زائدة".. هكذا ترى الأغلبية من الناشرين الأمر وهكذا هي قيمة المحرر الأدبي بالنسبة للغالبية العظمى منها.

على الجانب الآخر، يقول شريف الليثي، مدير دار تويا للنشر والتوزيع المصريّة، إن "المحرر الأدبي مطلوب في دور النشر، فهو (القاضي الأخير) الذي يصدر حكمًا على النصّ، ويقرر نشره أو استبعاده لأنه يستطيع أن يرى الأخطاء التي لا يراها الكاتب إمَّا لقلة خبرته أو لغرقه في العمل إلى حد التوحّد معه".

ويضيف: "في ظل التقدم الملحوظ في صناعة النشر في مصر والشرق الأوسط، تحتاج كل الدور إلى محرر أدبي ينتبه إلى مشكلات النصوص، لكن تلك الوظيفة مرفوعة من الخدمة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف تصبح كاتبًا مشهورًا؟ (1-2)

عبد الفتاح كيليطو.. جاحظ يكمل الغناء