25-أغسطس-2022
يتم مقاربة اغتيال الكتاب في النقاشات العربية مقاربة ثقافوية (Getty)

يتم مقاربة اغتيال الكتاب في النقاشات العربية مقاربة ثقافوية (Getty)

مع جريمة طعن الكاتب سلمان رشدي، تعود الثقافوية إلى صدارة المشهد. بين مئات المقالات والتعليقات في الصحافة العربية التي صدرت من باب التعليق أو التحليل أو مجرد الإدانة أو التعبير عن التضامن، كانت نسبة معتبرة منها معتمدة على خطاب يشجب "ثقافة التحريم" وذهنيتها في المجتمعات الإسلامية وبين عموم المسلمين أو بعضهم، أو ذهبت في مقاربة أقل تعميمًا إلى الإشارة إلى جهل مكفري رشدي بأعماله وعدم اطلاع معظم الغاضبين منه على أي منها، وكان في ذلك إشارة مضمرة وأحيانًا علنية إلى ثقافة الترديد والاتباع. وجاء ذلك كله، بنقد للمرجعية الثيوقراطية لجمهورية الملالي في إيران، وضيق الأفق الخميني، وتكرار لمطلقات مثل عداء مجتمعاتنا للخيال أو التباس معنى الأدب لديها وبالأخص في تشنجها في أمام السخرية والتهكم، وحين يتعلق الأمر بتابوهاتها المجتمعية وعلى رأسها الدين.

حدث مثل فتوى الخميني بحق رشدي ودوافعها وتبعاتها شديدة التعقيد على المستويات المحلية والعابرة للحدود، يتم اختزالها في مرجعية "الثقافة"

وبلا شك، تشتمل الكثير من تلك الإشارات على ما يكفي من الوجاهة والمنطق ودلائل الوقائع التي تدعمها، بما يكفي لأخذها بعين الاعتبار. أما التعميمات والاختزالات التي تظللها، ومع تعسفها أو تبسيطيتها، فلا غنى عنها في حال رغبنا في تحليل شأن يتعلق بالمجتمعي والعام، فمفهوم "المجتمع" بذاته هو تعميمي واختزالي بالتعريف، ولذا فالتعسف المتضمن فيه لا يمكن سوى قبوله على اعتباره "إجرائيًا"، وإلا أضحى التعليق على العام مستحيلًا في المطلق.

لكن ما يعيب تلك التعليقات والتحليلات، هو منطق علتها الأحادية، أي أن حدثًا مثل فتوى الخميني بحق رشدي ودوافعها وتبعاتها شديدة التعقيد على المستويات المحلية والعابرة للحدود، يتم اختزالها في مرجعية "الثقافة" وفي تجاهل شبه كامل للأبعاد السياسية للوقائع وهندستها واستغلالها بشكل مؤسسي ومنهجي من قبل لاعبين سياسيين، سواء على نطاقات محلية أو عابرة للحدود. ولعل ميل الكثير من العاملين في الحقول الثقافية العربية إلى ذلك المنطق الثقافوي يمكن فهمه أو على الأقل تفهمه في ضوء التخصصية، فكون الثقافة هي مجال نشاطهم الرئيسي فمن المستساغ أن ينصب تحليلهم على دائرتها، أما السياسي فيتم تجاهله أو تحييده، إما من باب الترفع على السياسة بوصفها نشاطًا أدنى في القيمة وسوقيًا، أو من باب تفادي الاصطدام مع المؤسسات السياسية.

الجدير بالانتباه هو أن الالتفافات إلى الأبعاد السياسية في جريمة الطعن التي طالت سلمان رشدي جاء في معظمه من الصحافة اللبنانية وكتاب لبنانيين. وعلى الأغلب يعود ذلك إلى السياق اللبناني الذي يزخر بتاريخ طويل من الاغتيالات ذات الطبيعة السياسية التي طالت كتابًا وصحفيين، وحتى وإن كان من يقف خلفها مؤسسة يمكن تعريفها طائفيًا، فإن البنية اللبنانية هي الدليل الأكثر وضوحًا على المعنى السياسي للطائفي والديني، لا العكس.

ولا تقتصر الدفوع بهشاشة المنطق الثقافوي على المثال اللبناني فقط. فهناك ما يؤكدها في السياق المصري أيضًا، ففي فيلم تسجيلي بعنوان "اغتيال فرج فودة"، قامت ببثه قناة الجزيرة قبل عامين، يظهر ناجح إبراهيم القيادي في الجماعة الإسلامية التي نفذت الجريمة، ليشير إلى أن فودة كان هدفًا من الدرجة الثانية، وأن استهدافه كان بفعل تقلبات العلاقة بين الجماعة والنظام المصري، والذي تحول من التحالف في عهد السادات إلى المواجهة في عهد مبارك، وكان قرار تنفيذ الاغتيال مرتبطًا بتراجع الأجهزة الأمنية عن تسامحها الضمني مع نشاط الجماعة الدعوي في المساجد، والبدء في مطاردة دعاتها.

 وكان قتل فودة عملية مقصود بها إيلام الأجهزة الأمنية وإحراج النظام. ولا يكتفي إبراهيم بتبيان الدوافع السياسية الصرفة لاغتيال فودة، بل يوضح كيف كان تقييم الجماعة لتبعات العملية، فبعد الإقرار بأنها كانت خطأ كبيرًا، يؤكد أن اغتياله قد أسبغ عليه "القداسة"، وحوّله إلى شهيد، وتضررت صورة الجماعة بشدة بعده. وهذا يبدو تقييمًا سياسيًا صرفًا أيضًا، بل ودليلًا إضافيًا على أن قتل فودة لم يقابل بترحيب مجتمعي بمرجعيات ثقافية ضيقة الأفق، بل على العكس دفع إلى نفور جماهيري واسع من الجماعة وإدانة لها، وتوافق ذلك مع رفع فودة إلى مرتبة الشهيد.

المقصود من هذا كله، ليس نفي الجانب الثقافي من الحدث، أو استبدال الثقافوية بسياسوية لا تقل اختزالًا أو تبسيطًا، بل الأخذ في الاعتبار كل من السياسي والثقافي

المقصود من هذا كله، ليس نفي الجانب الثقافي من الحدث، أو استبدال الثقافوية بسياسوية لا تقل اختزالًا أو تبسيطًا، بل الأخذ في الاعتبار كل من السياسي والثقافي، والأهم التأكيد على استحالة الفصل بينهما.