سيدي الكريم، كثيرا ما كنت أكتب إليك رسائل لم أتجرأ يومًا على إرسالها، إما بسبب الخجل أو بسبب الخوف من تخييب ظنك. وها أنا أكتب إليك أخيرًا، لأذكّرك بكلماتك منذ عشرين عامًا عندما كنت واحدة من طلبة صفك، كنت تقول لنا: "كل نهاية كتاب هي بداية للكتاب الذي يليه، لا وجود للنهايات. يومًا ما ستُحاَسبُون أنفسكم على الاسْتخفاف بالأفكار التي لم ترسموها".
حديث "عين" العدسة أعمق بكثير من كلّ ما يمكن أن يقال حقيقة في كلمات
اقرأ/ي أيضًا: الفنّان عماد جميّل.. كائنات من الهواء
واظبتُ منذ سنوات على متابعة يومياتك الفوتوغرافية، أتتبع صورك ونصوصك المرئيّة دون ملل، وأحادث فيها أشياء في "الظل". كتبت رسائل طويلة لأحدثك عن الآدميين الذين يرقصون كالدمى من حولي وعن التباس الوجوه والأجساد. كتبت رسائل عن "هنّ" و"الطبيعة الصامتة" و"أقدام في الماء" و"تقاطعات خصبة" و"النبلاء" و"النصوص الرطبة" و...، عن الثورة والحب والصمت والتعب والفوضى والفراغ والظلال. كنت بعد ذلك أمزق الرسائل وأقنع نفسي أنني فعلت ذلك لأحتذي بنصيحتك الرائعة، كنت تقول لنا "يجب أن تتحلُّوا بشجاعة التَخَلِّي. يَكْمُن المجد في حذف كل الأشياء التي تمنع الرؤية. ابحثوا عن النقاء الخالص للصورة، ربما ستجدون الفن هناك". وهناك تمامًا، في "لحظاتك التأمليّة الساكنة"، ترميني صورك داخل ظلال عزلتك الاختيارية لأكتب إليك رسالتي الأخيرة.
سيدي،
تنتابني نوبات كثيرة من القلق حول كلّ شيء، أتساءل في كلّ مرّة عن أمكنتك المُطَمْئِنَة، فأجد ظلالك مكتوبة في صور ملغّزة. يبدو أنّ نزوعك نحو الابتعاد عن العالم الواقعي، وممارسة الفن على ضفاف صمت الحياة، هو سبيلك الوحيد الراقي لتبليغ رسائلك المصوّرة. تترصّد لحظات سرياليّة من جوهر الأشياء المحيطة بك، تضيف إلى ذلك "الاستعداد"، تلك الحركة المشيئيّة التي يسميها سارتر "خيارًا"، لتُوقف حركة الزمن وتُبْلغنا أنّ حديث "عين" العدسة أعمق بكثير من كلّ ما يمكن أن يقال حقيقة في كلمات.
[[{"fid":"103818","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","title":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","height":237,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
تفتقد الحياة الواقعية إلى كثير من المصداقية، وأنت بكلّ جرأتك المعهودة، تستبدلها بصور أكثر واقعيّة من أجل ملء فجوات صنعتها الأحداث من حولنا. توجب عليك الاتّكاَل على "ظِلال" الأجسام لتتمرد على اللاَّضمانات في الفنّ. تصوّر شواطئ الأمان لتتحدّث عن الغرق الممكن فيها، وترسم أوراقًا لزجة ومبللّة لترمينا إلى عذاب الجفاف، تلتقط صورا للطبيعة الحيّة لرصد الموت الساكن في انتظارها. تختلق صورا إيهاميّة لكنها مقنعة و"أكثر ما فيها حقيقيّة هو كونها خدعة، وهمًا، سرابًا؟ أجل" (بول أوستر).
لا يمكن لموضوعاتك أن تكون جيّدة أو سيّئة على حدة، لأنّها الأمرين معًا. تحملنا صورك معها إلى طعم الملوحة ورائحة المحيط وضبابيّة الواقع، وهو ما يمنح كلّ تلك الظلال الجسمانيّة المؤبّدة بالتصوير، كثافة وغموض واحتمالية. يحدث غالبا أن تعزلني صورك عن الواقع، وتجعلني أغوص داخل صمت الصورة، ذلك الصمت الذي يدعونا إليه الفلاسفة لأنّه السلاح الذي يقول كلّ شيء، "الصمت عميق كالأبدية، أمّا الحديث فسطحي كالزمن" (الكاتب الأسكتلندي توماس كارليل). يحدث كلّ الضجيج وراء الصورة وتبقى لحظة التصوير وحدها ساكنة. ربما هناك دعوة للنظر من بعيد، للراحة ولأخذ وقْفَةِ استدراك، علّنا نأخذ زمام أمورنا بيدنا من جديد.
سيدي، هل تعرف كم من العنف والتمرّد يكمن في السكون؟ في العزلة؟
في اللّحظات الساكنة والمعزولة، تحدث الحكايات الأكثر روعة والقرارات الأشد رعبًا: الكتابة، التصوير
في اللّحظات الساكنة والمعزولة، تحدث الحكايات الأكثر روعة والقرارات الأشد رعبًا: الكتابة، التصوير، العتاب، الحبّ، الغيرة، الخيانة، المكائد، الانقلاب والموت. ذلك المكان اللاّمعلوم والغيبيّ الذي يثيرنا ويُرهبنا في نفس الوقت "في الضباب يصبح التباس الأزمنة منطقيّا تماما كما تلتبس الأمكنة والأشياء في الظلّ"( بول أوستر). تتركنا أجسادك المُظلّلة حائرين، فلا ندري إن كانت الوضعيات المصوّرة حقيقة أم خيال. نصدّق أحيانا أنها محض صدفة خياليّة ونسلّم أحيانًا أخرى أنّها نقل آنيّ للحظات عابرة في زمان ومكان معلومين. تعيد اللّحظات المؤبّدة تكوين الزمن تخييلًا وتضعنا أمام سؤال: ماذا بعد؟
اقرأ/ي أيضًا: معرض تغريد درغوث: الزيتونة رواية.. الزيتونة راوية
تستثمر عدستك كل ما تحمله معاني "الحواف" لتقول أنّ الصورة هي الحقيقة الوحيدة الصادقة. نحن نعيش على حافة الحياة وتلك الظلال المصوّرة هي انعكاسنا الذي يعيش مختنقا برطوبة الواقع. تواجهنا الظلال المارة، في صورك، من هنا وهناك، بإكراهات التقسيم الثنائي للوجود "الخير/ الشرّ" لأنّ "اللّعب يحدث في الظلّ وبالظلّ ومعه". تُبعدنا أحيانا الجزئيّات الحيّة العائمة والمشعّة عن معنى الإخفاق في ثورتنا، ولكن ما تلبث أن تواجهنا نصوصك الرطبة بإمكانيّة الصدأ والتلف والتعفّن. تدعونا كثيرًا، إلى التثبّت في الأقنعة الزاهية ربما لقدرتك المدهشة على الرؤية داخل "ظلال" الروح. تماما مثل ذلك "الشاعر الذي يمكنه أن يجعل جلد عنقك يرتعش"، خوفًا ودهشةً ورعبًا.
[[{"fid":"103819","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني"},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الفنان التونسي نور الدين الهاني"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","title":"الفنان التونسي نور الدين الهاني","height":361,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
يخيّل إلينا أنّ الرؤية المكانيّة في جلّ صورك تبدو محدّدة، ولكن عند التمعن جيّدا فسنرى تنويعات متعددّة للمكان الواحد، يسمح لنا ذلك بخلق هوامش واسعة لأمكنة تسترجع وتحذف الأزمنة في آن واحد. نكتشف مرارا استنكارك الثابت للهستيريا الواقعيّة اللاَّمُجْدِية، وتكشف انعكاسات الطبيعة الساكنة في صورك أنّنا داخل عالم مزيّف بفرسان مزيّفين بامتياز. يركن الكلّ إلى التبعية في كلّ شيء، إلى الخمول والكسل الفكري إلى الحدّ الذي أصبح فيه الاقتباس سرقة، والإبداع تشويه، والتفكير محاكاة للآخر، وأصبح فيه البطل مجرّد صورة كاريكاتوريّة لحكايات أسطوريّة وخياليّة. نعيش اليوم حالة دونكيشوتيّة إذ يتحوّل الكلّ إلى دمى في أيادي ملوّثة. أصبحت الظلال تُسْتبدل بكلّ شيء. وتحوّلت القشور إلى حقائق تغلّف الجوهر وتَسْتَثْنِيه.
سيدي ومعلّمي،
لطالما أخذتني عوالمك التصويريّة إلى طرقات متشابكة بين تواتر الواقع وجماليّة التركيب ومواقفك الاستهجانية. يَصْعُب علَيَّ أحيانًا أن أكون موضوعيّة في تحليل ما تلتقطه عدستك، يعود ذلك إلى الوزر الذي حمَّلتنا إياه سابقا بـــ"التفكّر قبل التدبّر"، ذلك الجميل الذي لن أنساه ما حييت بأن أستمرّ في البحث خارج منطق الهزيمة والنصر. يذكّرني كلّ ذلك بنصيحة الفيلسوف هيراقليطس الذي يقول "خلال بحثك عن الحقيقة، كُن على أهبة الاستعداد لغير المتوقّع، فدرب الحقيقة شاقّ، ومُلْغِزَة هي حين العثور عليها".
هيراقليطس: خلال بحثك عن الحقيقة، كُن على أهبة الاستعداد لغير المتوقّع، فدرب الحقيقة شاقّ، ومُلْغِزَة هي حين العثور عليها
تتحدث صورك عن العزلة أكثر من أيّ صور أخرى، ومع ذلك فنحن نقرأها من خارج العزلة لنستشفّ فكرك المتمرّد. تستمر آثارها في حيّز الذاكرة، هكذا نتذكّر "أقدام في الماء" و"لحظة الزِنّ" لنستحضر الوجه الآخر المغيّب لضوضاء العالم الخارجي، تجرْجرُ معك الصّفات التّالية مثلما يجَرْجرُ البحر معه مجسّاته لقناديلُ البحر: مُسْتحوذ، باطنيّ، غنائيّ، ساحر، مُنوّمٌ، كئيبٌ، تراجيديٌّ.
اقرأ/ي أيضًا: الهندسة جوهرًا لتجربة الفنّان سمير التريكي
أعترف إليك أخيرًا، بأنّك علّمتني أنّ التفكير هو أرقى من كلّ أشكال الضغائن وها أنا أحيّي فيك مجددًا شجاعتك المتناهية في الانسحاب.
اقرأ/ي أيضًا: