20-نوفمبر-2016

غرافيتي في غزة

أروي في السطور التالية أدناه، حواري مع صديقي غريب الأطوار، في الحقيقة أشكّ أن صديقي هذا يعاني هلاوسَ، أو ربما أنا من يعاني منها، لم ألتقِ به منذ أشهر، لكننا التقينا البارحة مجددًا في حديقة صغيرة بجانب بنك الدم قرب دوار حيدر عبد الشافي. 

جدير. بالذكر أني لم أستأذنه بالنشر، لأنه سيرفض، لكني لم أستطع منع نفسي من ذلك، فهو بنهاية الأمر لا يملك حساب فيسبوك، ولست أخشى من أن يعثر على هذا الحوار مكتوبًا، كما أنه لم يطلب مني وعده بإبقاء الأمر سرًا، فهو لا يكترث بمثل هذه الأمور، كما راعيت ألّا أذكر أية تفاصيل من شأنها أن تدل على شخصه، وقد افترقنا بدون ميعاد ثان، فقد رفض أن يعطيني أية وسيلة من شأنها أن تسهّل تواصلنا مستقبلًا، إلا الصدفة وحدها التي جمعتنا مرة أخرى وآمل أن تجمعنا مجددًا. 

تنويه أخير مهم، اعترف لي صديقي بأنه قد راودته بعض الهلاوس أو التخيلات أثناء حواره معي، لكني لم أعترف له بدوري، فأخرجتها بين قوسين، على لسانه ولساني، أي أن ما بين قوسين هو حوار داخلي ولم يجر على لسان أي منا ولم يتعد عقولنا المريضة.

- مصادفة مرة أخرى؟
- لا، كنت بانتظارك.
- كيف عرفت أني سآتي؟
- لم أعرف، لكني تمنيت قدومك، فالحديقة فارغة من الزوّار في هذه الأيام.
- إذن أنت تعترف بتطفلك. يقولون إنها ستمطر.
- لا أستطيع الجزم حتى أشعر بلسعات القطرات الباردة على خدي.
- كيف أتصرف؟
- أهذا سؤال عام، من شاكلة كيف أربط حذائي؟
- للأسف، من علمني كيف أربط حذائي، لم يعلمني ماذا أفعل في هذه الحالات؟
- الاكتئاب مجددًا؟
- لا، مجرد نوبة من الشعور بالقلق تجاه نفسي، وتجاه من حولي، وتجاه الأشياء.
- بسيطة، اترك الأمور على عواهنها، صدقني، ستسير بشكل أفضل، عندما نتدخل نفسد كل شيء.
- لكنها حياتي، وأنا موجود الآن، أنا لست شبحًا، لم أمت بعد، ولا أعرف كيف سأتصرف.
- أهناك ما تريد قوله؟
- أشعر بفقدان العاطفة تجاه حتى أكثر الناس قربًا مني، ربما بالخجل منها كأنها انحراف أو عيب يجب التستر عليه. أهذا طبيعي؟ لا تقل لي بنبرتك الهادئة المستفزة بأن كل الأمور على ما يرام.
- حسنًا، أنت في مأزق كبير، يجب عليك أن تتوجه لأقرب تليفون عمومي، لتخبر أقرب شخص لديك بوصيتك الأخيرة.
- وبعدين؟ أقتلك ثم أنتحر؟
- لا بعدين ولا قبلين. خذ سيجارة.
- وورقة وقلمًا أيضًا.
- لماذا؟
- من أجل الوصية.
- وكأن أحد يكترث لأجلك. المهم، كنت تتحدث عن فقدان العاطفة، كيف؟
- أعني أني لا أستطيع الشعور بالمشاعر الطبيعية، الأمر معقد وبسيط في آن، أقصد، مثل التفكير في تحكمك بقدميك أثناء عملية المشي، أتفهم؟ هناك تلك الليالي القليلة جدًا التي أستيقظ فيها مرعوبًا لأتوجه لغرفة أمي، أظل واقفًا على الباب ولا أدخل بالطبع، لكني أود وقتها أن أخبرها كم أني أحبها، ثم يتلاشى هذا الشعور صبيحة اليوم التالي.
- أها، إنك تحاول أن تقول شيئًا لكن غير قادر على قوله.
- كل ما أقوله إنما تعبير عن عجزي عن قوله.
- دخلنا في الفلسفة!
- لا، هذا ما أشعر بها حقًا، أصلًا ما الفائدة من قول الأشياء؟ أتصبح ذات معنى؟ نحن نعطيها المعنى؟ لكنها موجودة من قبلنا وستظل موجودة بعد أن يعلك الدود أجسادنا!
- لماذا لا تصمت إذن؟
- إنني أمارس الصمت قدر استطاعتي، وهذه الأحاديث فترة استراحة بين فترات طويلة من الصمت الممتد، حتى أني أشعر بتفاهة هذا الحوار؟ لماذا يجلس كلانا على هذا المقعد الآن ونتحدث؟ ما الفارق الذي سيصنعه حديثنا؟ لا شيء.
- حتى اللا شيء تعني وجود شيء ما.
- لا مفر إذن، هذا فخ.
- للأسف.
- أتشعر بهذا؟
- بماذا؟ الرياح؟
- لا، أقصد تفاهة الحياة. أشعر بتفاهة الحياة، يتعاظم هذا الشعور في أيام الخريف وفي بعض الليالي التي لا يصح وصفها إلا بالكئيبة، مثل هذه الليلة.
- هي ليلة كئيبة فعلًا، لكن أيسعنا فعل شيء؟
- غير الجلوس والتحدث؟
- التحدث عمّا يسعنا فعله في ليلة كئيبة كهذه؟
- توقف، إنك تجعلها أكثر كآبة. أريد أن أحطّم هذا الهواء!
- اطلب شيئًا أكثر واقعية.
- هل جربت ذلك الشعور، أن تقوم باجتياز خط سريع دون النظر يمنة أو يسرة؟
- لا، باعتقادك أن في هذا التصرف حرية؟
- أتقصد أنه ينم عن تعبير عن ضعف أم قوة؟
- نعم.
- سمّها ما تشاء، لكني جربته أكثر من مرة، بل إن نمط حياتي في الآونة الأخيرة اتخذ هذا الشكل، أعني أفعال جنونية من هذا القبيل.
- أتقول نمط؟
- يالسخرية، نمط، أترى؟ الحياة تعاندنا، تدجّن حتى جنوننا فيصبح اعتياديًا.
- ربما كل الأفعال في السابق كانت مجنونة، ثم انضمت للمسير المنتظم للحياة.
- بالضبط، أعني، دعك من الخط السريع، ما الذي يمنعنا من الانتحار في هذه اللحظة بالذات؟
- الانتظار ربما. بحدوث شيء ما جلل، يقلب كل الأحوال.
- تستطيع أن تقول الأمل، أأنت خجلٌ من قولها؟
- حاضر، الأمل، لكني أعرف أنك تكره هذه الكلمة، فتجنبت استعمالها.
- لكن لماذا الانتظار؟ حتى نشهد مآل الأمور؟ أشهادتنا مهمة لهذا الحد؟ مهمة لمن؟
- مهمة لنا، انها الأنانية ربما، أو الاعتداد بالذات؟ ربما لهذا السبب يعتقد البعض بالحياة الآخرة؟
- نعم، إنها الشهادة الكبرى التي ينتظر الجميع حضورها. وكأن حياة واحدة لا تكفي.
- وبعد أن وصلنا إلى هنا، أسيتغير شيء؟
- لا، إننا نتحدث وحسب.
- أنعود للعواطف؟
- أوكي، إنه دوري. كنت أتحدث لله منذ عدة سنوات، حتى أنخرط في نوبة من البكاء.
- (إنه يكذب، ينسج قصة خيالية عن بكائه، ذلك التمساح الذي لم يكن مؤمنًا في يوم من الأيام، ويحاول الآن استدراجي للحديث عن تجاربي الخاصة بالبكاء) منذ عدة سنوات؟ ولماذا توقفت؟ لأن الحديث معه يشبه المونودراما؟
- لست موسى لكي يكلمني، انتهى زمن الأنبياء، لكني الآن أبكي على مقاطع من سوريا مثلًا لاجترار دموعي.
- أصبح البكاء للحزن، كالاستمناء للجنس. رغبة ميكانيكية بحتة. حزّن جاهز معلّب حسب الطلب، ومن قال لك أن زمن الأنبياء انتهى؟
- نعم؟ معلوماتي التاريخية تتوقف عند نزول القرآن كآخر كتاب سماوي.
- لماذا لا يكون هناك ولو نبي واحد حقيقي بين الآلاف أو عشرات الآلاف من مدّعي النبوة الذين تعج بهم مستشفيات المجانين حول العالم؟
- سأقبل بفكرة أن الله لم يرسل أي نبي من الأساس على طرحك هذا. أو سأقول لك إني نبي، ما رأيك، أنا أحد الأنبياء الهاربين من المصحة، هاها، ها أنا ذا، نبي حقيقي أمامك، فلتؤمن برسالتي.
- وما هي رسالتك؟
- يخبركم الله أن هذه اللعبة قد انتهت، وأنه لا يكترث بشأنكم، من شاء منكم فليستمر بالحياة ومن شاء فلينتحر.
- وكأني كنت أنتظر هذا العرض؟!
- لم تقل لي، وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- متى بكيت آخر مرة؟
- (ألم أقل لكم؟) قبل عدة أيام، كنت سعيدًا ثم بكيت لأني شعرت بخطر فقدان هذه السعادة. هل تفكر مثلي؟
- بالرغبة في البكاء؟
- لا، هذه الحالة المستمرة كصوت مستمر في الخلفية، أشعر بالسخافة لنزعتي لتحويل كل الأحداث إلى قصص، بل إني أتمادى في تحوير الأحداث العادية عند سردها لكي تبدو أكثر درامية ومقبولية للدهشة.
- الأمر أخلاقي في نهاية الأمر، أعني أيهما يستحق أن ننتصر له الصدق أم الجمال؟
- لا أدري، لكني لا أستطيع مقاومة الجمال، ربما هو أكثر ما يغري بالبقاء، البقاء على قيد الجمال.
- ماذا لو لم يكن هناك المزيد من الجمال، ماذا لو أنه كله كذبة، وكل ما في الأمر أن رؤيتك للجمال هي تأويل لعالم قبيح.
- سأشعر أني عشت كذبة كبيرة، وأني قد خُدعت، لذلك الانتحار هنا سيكون أكثر جمالًا.
- كيف؟
- سيكون بمثابة إعلان نهائي عن رؤيتي لجمال العالم، إعلان بالتخلّي وكأن كل جمال العالم تكثّف أمامك في هذه اللحظة، ثم ما عدت بحاجة لرؤية شيء آخر، ثم إن الأمر بحد ذاته مرهق.
- الانتحار؟
- لا، التفكير بالجمال على هذا النحو. إعلاؤه إلى هذا المستوى الذي يجعله الغاية الوحيدة، سدرة منتهى آمالنا. الركوع أمام مذبح الجمال وإراقة دمنا هناك حتى آخر قطرة.
- ما رأيك بالاعتراف؟ (أتمنى أنه سيقول شيئًا خاصًا به هذه المرة)
- بأي معنى؟ الإنسان يعترف بينه وبين نفسه، يعترف أمام الله ويعترف خلف شباك الكاهن، الاعتراف فعل تَخفُف مريح، فعل تخلٍّ وتعرٍّ، حالما نعترف لا يعود الاعتراف جزءًا منا، نخلّفه خلفنا.
- أتعني مثل العمل الأدبي، حالما ينشر يتوقف عن كونه ملك لصاحبه؟
- في هذه الحالة تخيل أنك تكتب رواية لا يعرفها سوى أنت والله، أو أنت والكاهن، أو أنت وأنت أو أنت وطبيبك النفسي.
- لكن هذا لا يحدث، حتى أشد الأفعال خزيًا وإثارة للخجل إذا ما صيّرت عملًا أدبيًا، فإنها تصبح مقبولة.
- صحيح.
- (سألقي له باعتراف آخر) كانت لي صديقة مقربة، لكم أحببتها، أخبرتها ذات مرة أني على استعداد لأن أغفر لمن أحبه كل شيء، وأي شيء من الماضي. قلت لها: كنت سأحبك بنفس القدر حتى لو كنتِ قاتلة، لكنها خافت.
- طبيعي، فالإنسان ضعيف، إننا مهشمون من الداخل، ونخشى أن نأتمن أحد على دواخلنا، أو أن نؤتمن، وربما أنها خافت لمجرد التفكير بأن أشد أسرارها ظلامًا لن تعود ملكًا لها، لكن هناك فكرة مريحة أكثر.
- ما هي؟
- الاعتراف للغرباء، الالتقاء بناس لمرة واحدة فقط، ووجهًا لوجه، نقول لهم ما يثقلنا، ثم لا نراهم بعدها أبدًا.
- لكن ماذا لو التقيتم؟
- لو رأيناهم بعدها، سنرى اعترافاتنا تطوف على أعينهم، ربما الإبقاء على جانب غامض من شخصية كل منا، أمر هام، ربما يجب الإبقاء على اعتراف واحد أخير، يضمن لنا، ملجأ سريًا أمامهم وملاذًا لذواتنا، اعترافًا احتياطيًا يضمن أن أنا هو أنا.
- ألهذا السبب يبدو أن هناك حميمية ناقصة، أعني أن كل الإباحية الموجودة لا تغدو مجرد قذارة، هناك قصص مثيرة حقيقية تموت مع أصحابها، ربما كان من شأنها أن تغير العالم، ربما لهذا السبب نشعر أن شيئًا ما ناقص.
- نعم، هذا ما أريد قوله، إنني أشعر حتى أن العلاقات العاطفية تحدث خارج ذواتنا، مثل مشاهدة قوقعتان تحتكان، ثم تقترب لترى أن ما يجري حقًا هو أن هناك سلحفاتين تمارسان الجنس. أو مثل الحديث من خلف الزجاج كما في زيارات السجون.
- لنلعب على المكشوف؟
- ماذا تقصد؟ لو كشفت نفسي أكثر من ذلك، فلن تسامحني حتى لو كنت المسيح.
- هل تعرف قصة فرويد مع اليهوديين في القطار؟
- كلي آذان صاغية.
- يروي فرويد قصة لطيفة عن اليهوديين اللذين التقيا في قطار، فسأل أحدهما الآخر عن البلدة التي يتوجه نحوها. أجاب الثاني : "أنا متجه إلى كراكوفيا". رد الأول متعجبًا: "يالك من كذاب، إذا كنت تقول إنك ذاهب إلى كراكوفيا، فلأنك تريد أن أعتقد أنك ذاهب إلى لومبيرغ، لكن أنا أعرف أنك ذاهب حقًا إلى كراكوفيا".
- إذن كل شيء واضح مسبقًا، ما الذي تطلبه؟
- أن تعترف بأن كل شيء واضح فعلًا.
- كان يجب أن نصل لهذه النقطة، بدا هذا واضحًا من البداية.
- لكني حزين الآن، يفترض مني أن أصبح سعيدًا لا حزينًا، أأنت حزين أيضًا؟
- ألم نعترف؟ لقد فقدنا انشغالنا بذواتنا، إننا قديسون!
- أنت نبي كما قلت سابقًا، حسنًا، قديس رتبة جيدة بالنسبة لي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من دفتر يوميات الموتى

القناع الثالث: الحياة